مقتطفات من كتاب الحكمة

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
sshibamy
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 225
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

مقتطفات من كتاب الحكمة

مشاركة بواسطة sshibamy »

مقتطفات من كتاب الحكمة
وضعت هذا البحث المنقول في قسم الفلسفة والحكمة
لانه بحث اعجبني كثيرا بحث هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. بحث هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. بحث كالمشرق شرق به المسير وقميص يوسف جاء به البشير. هو في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وقد أهديت إلي محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقه. بحث ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شم الولد. ورد منه المسك ذكيا، والزهر جنيا، والماء مريا، والعيش هنيا، والسحر بابليا.
يقول كتاب الحكمة التبتي:
وقالت الأرض: "أيا ربَّ الوجه المشعِّ؛ بيتي خاوٍ. [...] فأرسل أبناء السبعة ليعمروا هذه العجلة. لقد أرسلتَ أبناءك السبعة إلى ربِّ الحكمة. سبع مرات رآك تتقرَّب إليه، وسبع مرات أُخَر شَعَرَ بك. لقد حرَّمتَ على عبادك – الحلقات الصغرى – التقاطَ نورك وحرارتك، واستقبالَ رحمتك الواسعة وهي في طريقها. فابعث الآن إلى أَمَتِك مثل ذلك."
فقال ربُّ الوجه المشع: "سأبعث إليكِ بالنار ساعة يبدأ عملُكِ. ارفعي صوتك إلى عوالم أخرى؛ التمسي من والدك – ربِّ السِّدرة – أبناءه. [...] سيكون شعبك تحت حُكْم الآباء؛ وسيكون بَشَرُك مائتين. أما بَشَرُ ربِّ الحكمة – لا أبناء القمر – فخالدون. كفِّي عن الشكوى. فجلودك السبعة مازالت عليكِ. [...] مازلتِ غير مستعدة؛ وبَشَرُك غير مستعدين."
بعد ثلاث مخضات عظيمة رَمَتِ [الأرض] عنها [جلودها] الثلاثة القديمة ولبست سبعة جلود جديدة، ثم استوت في [جلدها] الأول.
ودارت العجلة ثلاثين كورًا أُخَر. وبنت أشكالاًً: حجارة طرية قَسَت، ونباتات قاسية طريت. [بَنَتِ] الظاهر من الباطن، حشراتٍ وحُيَيْوينات. وكلما اجتاحت [هذه] الأمَّ نفضتْها عن ظهرها. [...] وبعد ثلاثين كورًا استدارت. استلقتْ على ظهرها؛ على جنبها. [...] وما كانت لتدعو أبناء السماء، وما كانت لتسأل أيًّا من أبناء الحكمة. صوَّرتْ من رحمها هي. ولفظت بشرًا مائيين، رهيبين، أشرارًا.
تعليق......
الحق أقول، أيها الإخوة، أني في كلِّ مرة أقرأ كتاب الحكمة القديمة، أقف مذهولاً أمام حقيقة جديدة لم أكن متنبهًا إليها من قبل. وأتأمل في هذا النص الذي يقدِّمه لنا هذا الكتاب ، بلغته الشاعرية وتعبيراته الغامضة، عن نشوء الحياة.
وما لفت انتباهي هنا، وأنا أقرأ هذا الكتاب للمرة الأخيرة عند كتابتي لهذه التأملات، أنه، قبل آلاف السنين من الآن، في عصور نَصِفُها اليوم بالـ"همجية"، كان بشرٌ يتحدثون، من خلال وصفهم لتلك الـ"الحجارة [الـ]ـطرية [التي] قَسَتْ، و[الـ]ـنباتات [الـ]ـقاسية [التي] طريت، [وذلك] الظاهر [الذي بُنِيَ] من الباطن، [فأنجب تلك الـ]ـحشرات و[الـ]ـحييوينات، [التي] كلما اجتاحت هذه الأم [ويقصد الأرض] نفضتْها عن ظهرها..." – [يتحدثون] عن شكل معين من التطور الذي لم تدركه علومنا حتى ما قبل 150 سنة. كانوا يتحدثون – بلغة قد تكون أدق من لغتنا العلمية المعاصرة – عن نشوء الحياة من قلب الجماد.
ونعود إلى كتابنا لنتابع أسطورة نشأة وتطور الإنسان من خلال هذه المقتطفات...
لولا الإنسان لما وجدت الأديان، ولولا الإنسان لما وجدت الحياة ولما وجد الموت، ولولا الإنسان لما كان ثمة كتب سماوية ولا أنبياء ولا شياطين، ولا قيامة ولا حساب ولا جنة ولا نار، الإنسان هو مركز الكون ومحوره، بل هو الكائن الوحيد الذي استطاع السيطرة على الأرض والقدرة عليها بتوجيه الله له، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استحق وعن جدارة أن يكون سيدا للكون بلا منازع بتوجيه الله له، ليجلس في علياء هذه الحياة، ليس بمصانعه ولا بما يشيده من ترف ورفاهية، ولا بما يكدسه من قوة ودمار لاستضعاف بني جنسه وقهرهم، ولا بما يحصده ويكنزه من أموال وزخرف وزينة وطلاء، ولكن بما يبثه في الدنيا من قيم إنسانية، وفضائل ومكرمات آدمية لنفسه ولبني جنسه وللأشياء من حوله.

إلا أن (الإنسان) سيد الحياة، قد استعبدته الأهواء والأشياء وأهانته وهوت به إلى وحل العبودية الآسن، فأسقطته إما في مستنقع العبودية للظنون البشرية المصطبغة بالصبغة الإلهية، أو العبودية لهلوسات وخرف من يسمون بالمفكرين والفلاسفة، أو العبودية للدجل والتخرصات السياسية، أو العبودية لهوس الأطماع الاقتصادية، أو العبودية لشبق الأنانية الفردية الكالحة، أو العبودية لبريق المادة الزائف، أو العبودية لأوهام الرومانسية الخيالية الهلامية، أو العبودية لسفاهة الطائفية العرقية القبلية العنصرية المقيتة، أو العبودية لشهوانية الحيوان اللاهثة، فما أن يسقط في عبودية حتى تجذبه أخرى فيسقط ويسقط وتسقط معه الآدمية.

لقد فطر الله الإنسان حين فطره وليس به ثمة دين يحمله في طيات نفسه أو خلقته، وليس به ثمة إسلام ولا توحيد ولا شرك ولا إيمان ولا كفر، لقد فطره الله فقيرا من كل شيء، خاويا من كل علم، خاليا من كل دين، بعد أن سواه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا، وجعل له من نفسه على نفسه بصيرة يفرق بها بين الحق والباطل، بين الفجور والتقوى، بين الهدى والضلالة، بين الظلمات والنور، بين الطيب والخبيث، ثم أرسل له الرسل وأنزل عليه الكتب وعلمه ما لم يكن يعلم، كي لا يكون له حجة في فساده وانحرافه وسقوطه حتى ولو ألقى معاذيره، فلولا الله ولولا الوحي لما علم الإنسان شيئا عن نفسه ولا عن الكون من حوله، ولما وصل إلى ما وصل إليه من علم وتقدم وحضارة، ولما استطاع أن يرقى من أسفل سافلين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل أكثرهم يجحدون ويستكبرون ويكفرون بنعمة الله عليهم، فالإنسان بهذه الخلقة وبهذه الصورة وبهذا التقويم يعد أكرم وأفضل المخلوقات، وبيده هو وحده أن يحافظ على هذه الكرامة وهذه الأفضلية ليرقى ويسموا إلى عليين، وبيده أن يتنازل عن كرامته وأفضليته ويهوي مرة أخرى إلى أسفل سافلين، ولا يسقط الإنسان ويهوي إلا حين تقوده حفنة من أطماعه وأهوائه وشهواته خلف الأشياء وخلف ظنون الظانين وخرص الخراصين، من دون علم منه أو نظر أو إدراك أو بصيرة.

مقتطفات من كتاب الحكمة
10. وعندما قُضِيَ عليهم، أمستِ الأرض–الأم عارية. وطلبتْ أن تُجَفَّف.
11. وجاء ربُّ الأرباب. فَصَلَ المياه عن جسم [الأرض]، فكانت السماء من فوق، السماء الأولى.
19. وكانت الذرية الثانية هي الثمرة بالبرعمة والانبساط، [الذرية] اللاجنسية من التي لا جنس لها. كذا، أيها المريد، وُلدت الذرية الثانية.
21. وعندما شاخت الذرية، امتزجت المياهُ القديمة بالمياه الحديثة. وعندما تعكَّرتْ قطراتُها، تلاشتْ وتوارتْ في التيار الجديد، تيارِ الحياة الساخن. وصار ظاهر الأولى باطن الثانية. وأضحى الجناحُ القديم الظلَّ الجديد، وظلَّ الجناح.
22. عندئذٍ طوَّرتْ [الذرية] الثانية المولودين من البيضة: [الذرية] الثالثة. ونَضَحَ العَرَقُ، ونَمَتْ قطراتُه، وتصلَّبتُ القطرات واستدارت. أدفأتْها الشمس؛ والقمر برَّدها وشكَّلها؛ وغذَّتْها الريحُ حتى أينعتْ. وظلَّلتْ البجعةُ البيضاء [الآتية] من القبة النجمية القطرةَ الكبيرة – بيضةَ الذرية الآتية، الإنسانَ–البجعةَ من [الذرية] الثالثة المتأخرة: ذكر–أنثى أولاً، ثم رجل وامرأة.
27. وأمست الذرية الثالثة مركبةَ أرباب الحكمة. وخلقتْ "أبناءَ الإرادة واليوغا". بالقدرة السحرية خلقتْهم، الآباءَ القدُّوسين، أجدادَ الكُمَّل.
28. ومن قطرات العَرَق، من بقايا الجوهر – المادةِ [المستخلَصة] من الأجسام الميتة للبشر والحيوان من العجلة السابقة – ومن التراب المهمَل، وُلدت الحيوانات الأولى.
29. حيوانات ذوات عظام، تنانين الأغوار، وأفاعٍ طائرة أضيفت إلى الزواحف. والزواحف على الأرض نَبَتَتْ لها أجنحة؛ والمائيات ذوات الأعناق الطويلة أمست والدة طيور الجو.
30. وإبان الذرية الثالثة، نَمَتِ الحيوانات عديمات العظام وتغيرت: صارت حيوانات ذوات عظام، وتصلَّبتْ ظلالُها.
31. وانفصلت الحيوانات أولاً. وجعلت تتكاثر. وانفصل الإنسان المزدوج أيضًا. قال: "فلنتكاثر مثلها؛ فلنتجامَع وننسل مخلوقات." وهكذا كان.
35. عندئذٍ صار البشر أجمعين موهوبين عقلاً. وأدركوا خطيئة عديمي العقل.
36. وأصبحت الذرية الرابعة ناطقة.
37. وصار الواحد اثنين؛ وكذلك الأحياء والزواحف التي كانت ما تزال "أحدية" [خنثى] كلُّها، أسماكًا طائرة وأفاعيَ قوقعية الرأس عملاقة، [صارتْ اثنينية].
38. هكذا، مثنى مثنى، في المناطق السبع، وَلَدتْ الذريةُ الثالثة بَشَرَ الذرية الرابعة؛ وأمسى الآلهةُ غير إلهيين، والأرباب عديمي الربوبية

ونجد في كتاب العقيدة السرية للسيدة بلافاتسكي وصفًا عامًّا دقيقًا للذريات البشرية الأولى وهبوطها المتدرِّج في العالم الجسماني. ونشير، في هذا الصدد، إلى أن البشرية ظهرت في الدورة الرابعة – والدورة Rounder هي الفترة التي يستغرقها اجتياز موجة الحياة للأجرام السبعة المتفاوتة الكثافة التي تشكِّل الأرضَ في كلِّيتها –، وأن انفصال الجنسين في الدورة الحالية، بعد أن كان الإنسان كائنًا أحدي الجنس، لم يتم إلا في أواسط الذرية البشرية الثالثة، وأن كلَّ دورة مخصصة في المقام الأول، فيما يتعلق بالبشرية بعامة، لتكوُّن وتفتُّح أحد "المبادئ" السبعة المكوِّنة للإنسان في بنيانه الباطن. وتلمِّح العقيدة السرية إلى أن ظهور حاسة جديدة ونموها مع ظهور كلِّ "ذرية أم" يترافق بتفتُّح معين يقع على الحواس الأخرى التي سبق لها أن تفتَّحت مع ظهور الذريات الأمهات السابقات.
أما المبادئ السبعة[7] التي تكوِّن البنيان الباطن للإنسان فهي اصطلاحًا من الأدنى إلى الأعلى، أو من الألطف إلى الأكثف (الشكل 8):

الشكل 8: المبادئ الباطنية السبعة للإنسان في تَراتُبها المنبثق عن الموناد التي هي شعاع من الروح الكلِّي.
1. الجسم الجُرْمي (أو البدن)؛
2. طاقة الحياة prāna
3. الجسم النجمي astral body
4. الجسم الرغائبي (النفس الحيوانية) kāmarūpa
5. الذهن manas
6. الجسم الإشراقي أو العقل (مبدأ الفهم) buddhi
7. الروح atmā
مبادئ البنيان الباطن للإنسان، هي، على التوالي:
1. المركز القاعدي: يقع أسفل الجسم، بين الشرج والعضو الجنسي. يقابل الغدد الجنسية والضفيرة الحوضية؛ ويقابله البدن.
2. المركز العجزي (أو الحوضي): يقع بين السُّرة والعانة. يقابل غدة الكظر والضفيرة الخثلية؛ وتقابلُه النفسُ الحيوانية.
3. المركز السُّري: يقابل الضفيرة الشمسية؛ ويقابله الذهن الأدنى.
4. مركز القلب: يقابل الغدة الصَّعترية والضفيرة القلبية؛ ويقابله الجسم الإشراقي أو العقل.
5. مركز الحنجرة: يقابل الغدة الدرقية والضفيرة البلعومية؛ وتقابله الروح.
6. "العين الثالثة": موضوع بحثنا، التي كانت عضو البصيرة الروحية أو المشاهدة الصرف، ثم انقطعت عن العمل مع تراجع روحانية الإنسان ونزوعه المتزايد إلى المادية.[10] تقع بين الحاجبين، عند أصل الأنف. تقابل الغدتين النخامية والصنوبرية؛ ويقابلها الذهن الأعلى.
وأخيرًا يشار إلى وجود "مركز" سابع، هو المركز "التاجي"، ليس مركزًا بالمعنى الحرفي، بقدر ما هو حالة التحقق الروحي النهائي والاتحاد بالروح الكلِّي.

فما هي المعطيات التي في حوزتنا عن "العين الثالثة"؟
جاء في الآيات 38-42 من المقطع العاشر من "نشأة الإنسان" في كتاب العقيدة السرية ما يلي:
(38) كذا، اثنين اثنين، على المناطق السبع، وَلَدت الذرية الثالثة أبناء الذرية الرابعة وعَدِم الآلهة ألوهتَهم.
(39) كانت الأولى، في كلِّ منطقة، بلون القمر؛ والثانية صفراء كالذهب؛ والثالثة حمراء؛ والرابعة سمراء، أمست سوداء بالخطيئة. كانت الغراس البشرية السبع الأولى جميعًا ذوات سحنة واحدة. أما السبع التالية فقد بدأت تتمازج.
(40) عندئذٍ صارت الرابعة منتفخة كِبَرًا. "نحن الملوك – قالت – نحن الآلهة."
(41) واتخذ أبناؤها نساءً جميلات المرأى؛ نساء من بين عديمي الذهن ذوي الرؤوس الضيقة، فولدن مسوخًا، أبالسة خبيثين، ذكورًا وإناثًا، ... .
(42) وشيَّدوا هياكل للجسم البشري، وعبدوا إناثًا وذكورًا. وحينئذٍ انقطعت العين الثالثة عن العمل.[11]
هكذا كان أبناء الذرية البشرية الرابعة هؤلاء هم بحق أول بني البشر كما نعرفهم اليوم. وتؤكد العقيدة السرية في صددهم أنهم لم يكونوا على علم بأية عقيدة، ولم يقيَّض لهم أن يتقيَّدوا بمعتقدات قائمة على الإيمان. ولكن عندما أضحى العقل منهم منفتحًا على الفهم الروحي أحسوا بوحدتهم مع الحقيقة الكلِّية الواحدة .
لقد كانت البشرية الأولى سلالة من المَرَدَة ذوي قدرة جسمانية هائلة ويملكون عينًا ثالثة، واقعة على سطح الرأس وخلفه، كانت عضو البصيرة الروحية. ولقد كانت هذه الكائنات تتمتَّع بملكات عجيبة، جسمانيًّا ومعنويًّا؛ فكانت العناصر تأتمر بأمرهم، وكانوا يعرفون أسرار السماء والأرض، ويقرأون المستقبل في النجوم. فإن "العين الثالثة"، التي كان دورها متمثلاً في معانقة الأبدية، لم تضمر فيهم إلا حوالى نهاية الذرية الرابعة، عندما أمست الروحانية، بما فيها كلُّ الملكات الروحية وكلُّ صفات إنسان الذرية الثالثة الإلهي، في خدمة الأهواء الغريزية والنفسانية التي استيقظت في الإنسان. عندئذٍ فقدتْ عين البصيرة الروحية قدرتها و"تحجَّرتْ" رويدًا رويدًا وما انفكت تختفي متراجعة إلى داخل القحف، حتى صارت ما يُعرف اليوم تشريحيًا بالغدة الصنوبرية.
لقد كانت عواقب "سقوط" أجدادنا الأقدمين، الذي يُرمَزُ إليه بخطيئة آدم، وبالاً على الذرية الخامسة التي ننتمي إليها اليوم. بيد أن الشروح القديمة تلمع أن هناك في جملة الأرواح الخلاقة أو العقول التي آن أوان تجسُّدها، بوصفها أنيات المونادات التي غرست في الإنسان شرارة الذهن، مَن انصاع لناموس التطور حالما صار أبناءُ الذرية الثالثة على أهبة الاستعداد جسمانيًّا ووظيفيًّا، أي حالما تم انفصال الجنسين، فأضحى طلائع الكائنات الواعية التي، إذ اجتمع فيها العلم والإرادة مع النقاء الإلهي بحكم طبيعتها، أوجدتْ الإنسان نصف الإلهي الذي صار من الأرض ملحها، أي بذرة حكماء سلالة إنسانية مقدسة هي بحق "خير أمَّة أخرجت للناس" بالمعنى الباطني للمصطلح.

وتنقل السيدة بلافاتسكي مقطعًا من كتاب الحكمة القديم يلخِّص سياق ضمور "العين الثالثة" ينصُّ على أنه
كانت ثمة، في تلك الأيام الأولى، مخلوقات بشرية رباعية الأذرُع من الإناث–الذكور (أحديي الجنس)؛ ذوي رأس واحد لكنها بثلاث أعين. وكان في وسعها أن تبصر أمامها وخلفها. وبعد ذلك بدور (بعد انفصال الجنسين)، وقد سقط البشرُ في المادة، أظلمتْ بصيرتهم الروحية؛ وشرعت العين الثالثة بفقد قدرتها متزامنة مع هذا السقوط... وعندما بلغت (الذرية) الرابعة أواسط عمرها، كان لا بدَّ للرؤية الباطنية أن توقَظ وتُحصَّل بمحرِّضات صنعية كان الحكماء الأقدمون على علم بطريقتها... كذا فإن العين الثالثة، وقد تحجَّرتْ رويدًا رويدًا، سرعان ما توارتْ. وصار ذوو الوجهين أوحدي الوجه، وسُحِبتْ العين عميقًا في الرأس وهي الآن مدفونة تحت الشعر. وإبان نشاط الإنسان الباطن (إبان الغيبات والرؤى الروحية) تتضخم العين وتتوسع. ويراها المنعتق ويشعر بها، ويكيِّف عمله طبقًا لذلك........ والمريد الطاهر فلا خوف عليه؛ أما مَن لا يحفظ نفسه طاهرة (من ليس عفيفًا) فلن يتلقى مددًا من "عين الإله".[
وتعلِّمنا هذة النظرية أن في الطبيعة ناموسًا سرمديًّا (سنن الهية) ترغب دائمًا في الجمع بين الأضداد وإعادة توطيد التناغم الأساسي. وبفضل ناموس التفتح الروحي هذا، الذي سينضاف فعلاً إلى ناموسَيْ التفتح المادي والروحي اللذين يحكمان الآن سلوك الإنسان، سيبلغ الإنسان منتهى إمكانياته ويبني حضارة تليق بالجوهر الذي ينطوي عليه
ولقد بدأت شرارة نور الفهم تتألق في صفوة البشرية في القرن الواحد والعشرون، بما يبشِّر بدور إنساني جديد يعود فيه الإنسان ذلك الجبار الروحي الذي كان؛ يومئذٍ سيكون الإنسان منيعًا دون قوى السلب التي تشدُّه إلى أسفل، حصينًا في شخصه، خالدًا في فرديته. ، إذ تلتقي نقطةُ انتهاء الإنسان بنقطة ابتدائه، غنيًّا بزبدة الخبرات التي حصَّلها في حياته الأرضية، مستعدًّا لإتمام الدورة الكونية في "أماكن" أخرى.
على أن هذا يمكن أن يتم من الآن لدى ذوي الاستعداد والهمة للنهوض بالمهمة.
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••
صورة العضو الرمزية
faraj
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 403
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

مشاركة بواسطة faraj »

يقول الكتاب التيبتي:

1. كانت الوالدة الأزلية، متسربلةً بأثوابها المستترة أبدًا، قد هجعت من جديد لسبع أبديات.

2. الزمن لم يكن؛ إذ إنه كان يرقد هاجعًا في الحضن اللانهائي للدهر.

3. العقل الكلِّي لم يكن؛ إذ لم تكن كائنات سماوية موجودة لتحتويه.

4. الطرق السبعة إلى الغبطة لم تكن. وعللُ الشقاء العظيمة لم تكن؛ إذ إنه لم يكن من أحد يتسبَّب فيها أو يقع في حبائلها.

5. وحدها كانت الظلمة تملأ الكلَّ غير المحدود، لأن الأب والأم والابن عادوا واحدًا، والابن لم يكن قد استيقظ بعد من أجل العجلة الجديدة ومن أجل رحلته فيها.

6. والأرباب السبعة الأجلاء والحقائق السبعة كانت قد انعدمت [كفَّتْ عن الوجود]، والكون – ابن الضرورة – كان غارقًا في الغبطة العليا، لكي يختنق بما كان، ومع ذلك لم يكن. وكان العدم.

7. وعلل الوجود كانت قد أُزيلت؛ والظاهر الذي كان، والمستتر الكائن، كانا راقدين في اللاوجود الأزلي – الوجود الأحد.

8. وحده شكل الوجود الواحد كان منبسطًا بلا حدود، لانهائيًّا، بلا علَّة، غارقًا في نوم بلا أحلام؛ وكانت الحياة تنبض غير واعية في الفضاء الكلِّي، عبر ذلك الحضور الكلِّي الذي تدركه العينُ المنفتحة للنفس المطهَّرة.

9. ولكن، أين كانت النفس المطهَّرة حين كانت النفس الكلِّية المحيطة بالكون في الحق المطلق وكانت العجلة الكبرى بلا والدة؟

<تعليق>

نحن، إذن، أمام نصٍّ غامض؛ نصٍّ مغرق في القدم إلى حدٍّ نتجاوز من خلاله الزمان؛ نصٍّ يقول لنا إنه...

في مكان آخر من هذه الأرض، وفي زمان آخر لم يوجد، ربما، كان الإنسان، كما سبق وقرأنا، يحلم بالمطلق والعدم، باللازمان واللامكان؛

كان يتخيل الكمون، حيث كان كلُّ شيء ولم يكن؛

كان يتساءل عن طبيعة الزمن وعن البداية؛ ووحيٌ كان، من حيث لا يدري، يجيبه أن الزمان ليس سوى حلم ناتج عن تراكُم حالات وعيه؛

وكان يتساءل عن الوعي؛ ووعيه، كما كان يتلمَّس، كان، ربما، تلك اليقظة التي دفعتْه إلى التساؤل، ذلك الحنين اللامتناهي المحيط بكلِّ شيء، وتلك الإرادة التي جعلتْه يسعى إلى المعرفة التي أضحت مبرِّر وجوده؛

وكان يتساءل عن تلك المعرفة التي أضحتْ دربه إلى الغبطة، وعن طرقها السبع التي ستعيده من الوجود، أو لنقل من حالته الحالية، إلى العدم، إن لم نقل إلى حالته البدئية؛

وبعين قلبه، كان يرى أن هذه البداية كانت مطلقًا–عدمًا، كانت كمونًا. ولكن...

هل كان في وسعه فهم "المطلق" أو "العدم"؟ أو حتى فهم ما يعنيه "الكمون"؟

يقول الفيزيائي الكبير جون أ. ويلر:" كلُّ ما نعرف إنما ينبع من محيط لامتناهٍ من الطاقة التي تشبه في شكلها العدم..."، حيث، عند ذاك الجدار الذي دعوناه بـ"جدار بلانك"، وعند ذلك الزمان الذي حدَّده بلانك بـ -1034 من الثانية الأولى تتوقف حدود معارفنا – عند تخوم الميتافيزياء. ولكن...

عمَّ تتحدث فيزياؤنا التي عادت اليوم إلى الإقرار بما يتجاوزها؟

إنها تتحدث عن مفهوم جديد للفراغ، يدعى بـ"الفراغ الكوانتي". فالحقيقة هي أنه ليس في وسع الفيزياء – أية فيزياء – أن تتصور، بحكم طبيعتها، وجود فراغ مطلق، لا مادة فيه ولا طاقة. جل ما في وسع فيزيائنا الكوانتية تصوره، من خلال ما تفترضه توازن المادة، هو وجود طاقة كامنة في وسعها أن تتحول إلى مادة؛ كتلك الطاقة الدافعة لتلك الإلكترونات التي تبدو وكأنها تنبثق من العدم. ولكن التساؤل يبقى بلا جواب عند تجاوز هذه الحدود. والتساؤل الأساسي يبقى، وبإصرار يردِّد...

3

أين كان؟!...

حيث يتابع الكتاب التيبتي متسائلاً:

1. [...] أين كان البُناة، أين كان الأبناء النيِّرون للفجر الكَوْري؟ [كانوا] في الظلمة المجهولة لغبطتهم السماوية العليا. أما صانعو الشكل من اللاشكل – أصل العالم – أمِّ الآلهة والجوهر الأم، فكانوا راقدين في غبطة اللاوجود.

2. [...] أين كان الصمت؟ أين كانت الآذان الحاسَّة به؟ لا، لم يكن صمت ثمة ولا صوت؛ لا شيء إلا النَّفَس الأزلي المتواصل، الذي لا يعرف نفسه.

3. لم تكن الساعة قد حانت بعد؛ والشعاع لم يكن قد وَمَضَ بعدُ في البذرة؛ ولم تكن السِّدرة–الأم قد حبلت بعد.

4. لم يكن قلبُها قد انفتح بعدُ لكي يلجه الشعاع، فيسقط بذلك، كما الثلاثة في الأربعة، في حضن الوهم.

5. لم يكن الأبناء السبعة قد ولدوا بعدُ من نسيج النور. وحدها الظلمة كانت الأب–الأم، الجوهر–الأصل؛ والجوهر–الأصل كان في الظلمة.

6. هذان الاثنان هما البذرة، والبذرة واحدة. والكون كان ما يزال مستترًا في الفكرة الإلهية والرحم الإلهي. [...]

<تعليق وتأمل>

فربما كان ما يختبئ خلف "جدار بلانك" هو شكل من أشكال الطاقة البدئية اللامتناهية. ربما كان ما يسود ويوجد قبل بدء الزمان، الذي نعرفه من خلال نسبيَّته، هو تلك اللانهاية، إن لم نقل ذلك الزمان الكلِّي الذي لا بداية له ولا نهاية. ولكن، ما معنى هذا كله؟!

لسنا ندري! وقطعًا، لن يكون في وسعنا أن ندري!

ومع هذا، نثابر في محاولتنا لفهم الأمور. وأداتنا الآن هي كتاب حكمة قديم: كتاب غريب من حيث تعبيراته ومعانيه، مثله في ذلك كمثل سائر كتب الحكمة القديمة. ونتوقف هنا قليلاً لنحاول بعض الشيء تلمُّس ما قد تعنيه بعض تلك التعبيرات المستعملة من معانٍ.

فـ"الوالدة الأزلية"، التي هي المسبِّب والأصل، قد تكون هي المادة البدئية؛ تلك التي كان يدعوها الهندوس بـمولابراكريتي Mulaprakriti. وذلك الغيب المتجدد، ذلك العدم المطلق الذي عاد المسبِّب والأصل إليه لسبع أبديات، قد يكون، انطلاقًا من الميثولوجيا الهندوسية نفسها، ذلك العصر الكبير الذي يدعوه الهندوس بـ"المنفنترا" Manvantara، الذي مدته 910311040 سنة، أو لنقل مئة من "سني براهما"؛ ما قد يعني اللانهاية، حيث لم يكن يوجد أي زمان.

فالزمان، كما سبق وأشرنا، قد لا يكون سوى حالة من حالات وعينا، بين ماضٍ انقضى ومستقبل نحلم به، وحيث الحاضر، الذي هو الغالب فعلاً، لا وجود له في الواقع. فالوجود الكلِّي، الذي هو الوعي الكلِّي، كان غائبًا آنذاك في ذلك العدم، قبل أن يعاود الظهور من جديد حين تأزف ساعته، أي حين يعود فيغدو "ضرورة" من جديد.

لأن العدم المطلق – ذلك الغيب الذي ليس في وسعنا التعريف به، ذلك النَّفَس الأزلي المتواصل الذي لا يعرف نفسه – كان، كما جاء في الكتاب، راقدًا في غبطة اللاوجود. ولكن...

هل ما يقصده السِّفر التيبتي، حين يتكلم على ذلك النَّفَس الأزلي غير الواعي لذاته، هو ما ندعوه في لغاتنا الحديثة بـ"اللاوعي"؟

ونستذكر هنا ما قاله هيغل ذات يوم، متفكرًا في معضلة الحقيقة، أنه ما كان في وسع ما ندعوه باللاوعي أن يفعل ما فعل، أن يقوم بتلك المهمة العظمى، لو لم تكن غايته هي الوجود في حدِّ ذاته ولذاته. فإذا كان الوعي هو الغاية، عندئذٍ يكون ذاك الذي ندعوه "لاوعيًا مطلقًا" هو نفسه "مطلق الوعي".

لعلنا نعرِّف الماء بعد وصفه بالماء – ربما. ولكن، مع ذلك...

تبقى تلك الحقيقة المتمثلة بالوجود. ويبقى كلُّ ما سواها متجاوزًا فهمنا. حيث ليس في وسع المحدود، قطعًا، استيعاب ما لا حدود له بوسائطه العقلية، مهما بلغت. ولكن...

ربما تبقى إمكانية التواصل. والتواصل، كما نعلم، هو حالة صوفية!

ونتابع، من خلال ذلك السِّفر، في حال هي في الحقيقة حال تواصل، على الرغم مما قد تعكسه من عقلانية. وعقلانيته، ربما، هي التي وصفت الكون–الخليقة بـ"ابن الضرورة"؛ أي بتلك الحتمية التي كانت تنتظر ساعتها في قلب الكمون، بالبذرة المستورة في رحم الفكرة الإلهية.

4

الانفطار البدئي أو... الخليقة

ويتابع السِّفر التيبتي قائلاً:

1. [...] ويرتعش الاهتزاز الأخير للأبدية السابعة عبر اللاتناهي. وتنتفخ الأم، منبسطة من الداخل إلى الخارج، مثل برعم السِّدرة.

2. ويجتاح الاهتزاز كلَّ شيء، لامسًا بجناحه السريع الكونَ كلَّه والبذرةَ القابعة في الظلمة: الظلمة التي تتنفَّس فوق المياه الغافية للحياة. [...]

3. وتشع الظلمة نورًا، ويلقي النورُ بشعاع وحيد في الغور–الأم. ويخترق الشعاعُ البيضةَ البكر. ويجعل الشعاع البيضة الأزلية ترتعش، وتنبذ البذرةَ غير الأزلية، التي تتكثَّف مكوِّنةً بيضة العالم.

4. ثم تسقط الثلاثة في الأربعة. وتصير الماهية المشعة سبعةً في الداخل، وسبعة في الخارج. والبيضة المنيرة، التي هي ثلاثة في ذاتها، تتخثَّر، وتنتشر خثراتٌ في بياض اللبن عبر أغوار الأم، الجذر النامي في أعماق محيط الحياة.

5. ويبقى الجذر، والنور يبقى، والخثرات تبقى، ومع ذلك يبقى أب–أم الآلهة واحدًا.

6. وكان أصل الحياة في كلِّ قطرة من محيط الخلود، والمحيط كان نورًا مشعًّا، كان نارًا وحرارة وحركة. ثم تلاشت الظلمة ولم تعد موجودة؛ وتوارتْ في ماهيتها عينها، جسم النار والماء، أو الأب والأم.

7. فتأمَّل، أيها المريد، ابنَ الاثنين المشع، المجدَ السَّنيَّ الذي لا نظير له: الفضاء المشرق، ابن الفضاء المظلم، الطالع من أعماق المياه المظلمة العظيمة. إنه أب–أم الآلهة الصغرى، الـ***. إنه يتلألأ كالشمس؛ إنه تنين الحكمة الإلهي الوهَّاج؛ الواحد أربعة، والأربعة تتخذ لنفسها الثلاثة، والاتحاد يلد السبعة، وفيها السبعة التي تصير ثلاثين (أو الجحافل والآلاف المؤلَّفة). تأمَّلْ فيه يرفع الحجاب، وينشره من الشرق إلى الغرب. إنه يحجب الأعلى، ويترك الأسفل ظاهرًا بوصفه الوهم الأكبر. وهو يحدِّد مواقع الكائنات البهية، ويحوِّل الأعلى إلى بحر من نار لا ساحل له، ويحوِّل الجزء المتجلِّي إلى مياه عظيمة.

8. أين كانت البذرة وأين أمست الظلمة الآن؟ أين روح اللهب المتقد في مصباحك، يا أيها المريد؟ إنما ذاك هو البذرة، وذاك هو النور، الابن الأبيض الساطع للأب الأسود المستتر.

9. النور هو اللهب البارد، واللهب هو النار، والنار تولِّد الحرارة، التي تستحيل ماءً: ماء الحياة في الأم الكبرى.

10. ويحوك الأب–الأم نسيجًا يتَّصل طرفُه الأعلى بالروح – نور الظلمة الواحدة – وطرفه الأسفل بنهايتها الظليلة، المادة؛ وهذا النسيج هو الكون المحوك، من الجوهرين اللذين صارا جوهرًا واحدًا، هو الجوهر–الأم.

11. إنه ينبسط حين يعتليه نَفَسُ النار؛ وينقبض حين يلامِسَه نَفَسُ الأم. وحينئذٍ ينفصل الأبناء ويتباعدون، ليعودوا إلى رحم أمِّهم في نهاية "اليوم العظيم"، ويصيروا واحدًا وإياها من جديد؛ فحين يبترد، يصير مشعًّا، وينبسط الأبناء وينقبضون عبر ذواتهم وقلوبهم، فيعانقون اللانهاية.

12. وعندئذٍ يبعث الجوهر–الأم بالدوامة النارية لتُصلِّب الذرات – وكلٌّ منها جزء من النسيج. وإذ تعكس – كالمرآة – "الربَّ الواجب الوجود بذاته"، فإن كلاً منها يصبح بدوره عالَمًا.

<تعليق من منطلق نظرتنا المادية إلى الأمور>

في العام 1951، أعلنت الكنيسة الكاثوليكية أن نظرية الانفطار البدئي، أو الـBig Bang، لا تتعارض مع ما تورِدُه الكتب المقدسة رمزًا حول الخليقة. ونظرية الانفطار البدئي هذه هي أكثر النظريات التي تفسِّر نشوء الكون شيوعًا وقبولاً اليوم. فما الذي تفترضه هذه النظرية؟

تنطلق نظرية الانفطار البدئي، كما يصفها ستيفن هوكنغ، من فرضيات الفيزيائي فريدمان التي تقول إنه، في لحظة معينة من الماضي، قبل ما يقارب الـ20 مليار سنة، حصلت نقطة انقطاع un point de rupture: نقطة توصلت إليها الحسابات والتحليلات التي تقول إن المسافة بين المجرَّات (التي نفترضها هنا مجازًا) كانت عند ذاك تُقارِب الصفر. وبالتالي، كانت كثافة الكون والتابع المعبِّر عن الزمان–المسافة عند ذاك لامتناهيين.

وهذه النظرية، يؤكدها نسبيًّا عمر النجوم؛ كما يؤكدها، حتى الساعة، تباعُد المجرات بعضها عن بعض؛ وأيضًا وخاصةً، تؤكدها تلك المستحاثات الشعاعية التي تمَّ اكتشافها في العام 1965 في مختلف أنحاء الكون والمشابهة لتلك التي تبثها الأجسام عند درجة حرارة 3 تحت الصفر المطلق، وهي ما تبقَّى اليوم مما انطلق من حرارة رافقت لحظات الكون الأولى. ونستعرض، بإيجاز شديد، ما تفترضه هذه النظرية للحظات الكون الأولى...

عند الجزء -1053 من الثانية الأولى، تمايزت القوة النووية الكبرى، تلك التي تؤمِّن تماسُك النواة الذرية، عن القوة الكهرضعيفة (أي تلك الناتجة عن انصهار القوة الكهرمغناطيسية والقوة المتحلِّلة المشعة)؛ وكان قطر الكون قد أضحى 300 متر.

وعند الجزء -1011 من الثانية الأولى، انشطرت القوة الكهربائية الضعيفة إلى قوتين متمايزتين هما: ما نعرِّفه بتداخل القوة الكهرمغناطيسية والقوة الضعيفة، فتمايزت الفوتونات عن الكواركات والغلوونات واللبتونات، وتشكَّلتْ القوى الأساسية الأربع.

ويستمر التمايز: فعند الأجزاء ما بين الـ-1011 و-105 من الثانية الأولى اتحدت الكواركات مع النترونات والبروتونات، وبدأت مكِّوناتُ كوننا الحالي بالتشكُّل. ويستمر الكون في التمدد. ولكن...

هل أضحت فرضية الانفطار البدئي حقيقة علمية غير قابلة للنقاش؟ الجواب هو لا... لأن تلك النظرية التي تفترض تمدُّد المادة وتشكُّل الكون من نقطة تُقارِب العدم إنما تجد ما يقابلها ويوازيها في الواقع من خلال ما يقدِّمه العلماء من تفسيرات للثقوب السوداء، حيث تتقلص المادة، في المقابل، وتعود إلى ما يشبه العدم.

كذلك، في نقاشه لنظرية الانفطار البدئي، يتحدث ستيفن هوكنغ في كتابه المبسَّط قصة قصيرة للزمن عن تلك المحاولة النظرية التي قام بها في العام 1948 العلماء هرمان بوندي وتوماس غولد من النمسا وفريد هويل من إنكلترا، التي سمِّيت بنظرية "الكون المستقر". وهذه النظرية تستند إلى فكرة تقول إنه مع تباعُد المجرَّات بعضها عن بعض، تتشكَّل تشكلاً دائمًا ومستمرًّا مجرَّاتٌ جديدة، مما يجعل الكون لا يتغير عمليًّا. لكن هذه النظرية دُحِضَتْ وأُهْمِلَتْ من بعدُ.

ثم كانت محاولة أخرى قام بها العالمان الروسيان ليفشيتس وخلاتنكوف في العام 1963، اللذين رفضا تلك الحالة الخاصة من نماذج فريدمان، وافترضا، عوضًا عن الانفطار البدئي، وجود حالات تقلُّص وتمدُّد للكون الذي نحيا فيه، ثم تراجعا في العام 1970 عما ذهبا إليه. ولكن أهمية ما تقدَّما به يمكن تلخيصه في تلك الفرضية التي تقول إن الكون يمكن أن يكون ناجمًا عن حالات خاصة كالانفطار البدئي – إن صحَّتْ نظريةُ النسبية العامة. وتلك النظرية، كما يقول هوكنغ، غير كاملة لأنه ليس في وسعها أن تصف لنا كيف بدأ الكون، ولأنه، عند هذه اللحظة بالذات – عند لحظة البدء، كما عند لحظة النهاية المتمثلة بالثقوب السوداء – تنهار جميع النظريات، كما قال محقًّا ستيفن هوكنغ. ولا يبقى أمامنا سوى العودة إلى...

<تأملاتنا الميتافيزيائية>

ونمعن النظر من جديد فيما أورده كتاب حكمتنا التيبتي من مفهوم للخليقة Cosmogénèse، من خلال ما سبق أن عرضناه.

فنسجل كيف تقسم الفلسفة البوذية تلك اللانهاية الواحدة إلى قسمين: القسم الأول غير مقيد، واحد وشامل، هو ما يدعونه بـكالا Kala؛ والقسم الثاني، ذلك المقيَّد، الذي يقصده كتابُنا حين يتحدث عن الأبدية السابعة، وتدعوه فلسفتُهم بـكانداكالا Kandakala. وأيضًا...

نسجل، من خلال ذاك السِّفر، ذلك التصور الرائع للمسيرة الأزلية للواحد الأحد، بين ما يُفترَض أنه حالات يتناوب من خلالها اللاوجود والوجود: حيث حالات اللاوجود هي ما يدعونه بـ"ليالي براهما" – تلك "الليالي" حيث يرقد الكمون الإلهي. وأيضًا...

من هذا اللاوجود، من تلك الظلمة اللامتناهية التي يعبَّر عنها أيضًا، كما في كتب حكمة قديمة أخرى، بـ"المياه النائمة"، كانت البداية.

وتلك البداية، كما يصوِّرها سِفْرُنا، كانت تلاقح النور، الذي هو "الفكرة الإلهية" التي وصفها إنجيل يوحنا بـ"الكلمة"، مع ذلك الكمون الذي أضحى "البيضة البكر". ونسجِّل هاهنا أن هذه التصورات والتعبيرات عينها تتكرَّر في الكتب المقدسة للشعوب الأخرى. ونسجل أيضًا أن هذا التصور قد يكون، على صعيد ماديتنا، شكلاً من الانفطار البدئي أو الـBig Bang، كما قد يكون ذلك العدم أو اللاوجود الذي سبقه شكلاً من الثقوب السوداء.

أما وقد بدأت الخليقة فإن ما تورِدُه السُّوَر حول "سقوط الثلاثة في الأربعة" إنما هو تعبير عن سقوط الروح في المادة، إن لم نقل اختراق ذلك النور (الذي هو الروح الإلهية) لخليقتها المتجسِّمة. فالثلاثة، بحسب جميع كتب الحكمة القديمة (ومن ضمنها كتابنا التيبتي)، هي التعبير الرمزي العددي للروح؛ كما أن الأربعة هي التعبير عن المادة. ومجموعهما هو ذلك العدد السابع الصحيح والمقدس عند الأقدمين (3 + 4 = 7).

وكان تطور الخليقة التي تكاثرت فأضحت عددًا (أو ثلاثين كما عبَّرت السُّوَر)؛ وكانت بداية تشكُّل الكون من خلال تلك الصورة الشاعرية التي عرضناها هي عينها ما تعبِّر عنه لغتُنا العلمية القاسية والجافة، حين تتحدث عن دقائق الكون الأولى. تلك الخليقة التي، بحسب كتاب الحكمة التيبتي، تعكس، كالمرآة، ذلك "الرب الواجب الوجود بذاته". ونتابع محاولتنا الساذجة لربط العلم بالأسطورة...

وتستمر الخليقة، كما نتلمَّسها، من خلال علومنا، فيستمر كونُنا في التمدد، وتنقضي مليارات السنين، حيث...

تقول علومنا إنه قبل حوالى خمسة مليارات سنة من الآن، تشكَّلتْ مجموعتُنا الشمسية. وكانت الأرض ما تزال – وقد انقضى مليار سنة على تشكُّل الشمس – قد ابتردت إلى حدٍّ كبير؛ ولكنها لم تكن بعدُ قد أضحت صالحة لاحتضان أيِّ شكل من أشكال الحياة. ولكن، وسط تلك المحيطات من الحمم التي كانت تتفاعل على سطحها، بدأت تتشكل أولى القارات. وكانت الحمم الآخذة بالتجمد تبث كميات هائلة من الغازات التي كانت تشكِّل الغلاف الجوي للأرض آنذاك – ذلك المزيج الكثيف من الهدروجين والميتان والنشادر والماء وغاز الفحم.

وعلى الرغم من هذا، مع استمرار التبرُّد، كان تكثُّف الماء في قلب الغلاف الجوي. وكانت أمطار هائلة أدت إلى تشكُّل تلك المحيطات التي أضحت تغطِّي ثلاثة أرباع سطح كوكبنا – كوكبنا الذي كانت أجواؤه وجزيئاته تتعرض لذلك القذف الهائل من الأشعة فوق البنفسجية التي كانت تبثُّها الشمس. وأيضًا، كانت تتعرَّض لتلك البروق والرعود المرعبة. فكانت سلاسل من التفاعلات لا نهاية لها. وكان تشكُّل أولى المواد الأولية وأولى الحموض الأمينية – تلك الأشكال البدائية من الحياة التي أوصلتْنا من خلال تطورها إلى...

5

نشأة الإنسان

2. وقالت الأرض: "أيا ربَّ الوجه المشعِّ؛ بيتي خاوٍ. [...] فأرسل أبناء السبعة ليعمروا هذه العجلة. لقد أرسلتَ أبناءك السبعة إلى ربِّ الحكمة. سبع مرات رآك تتقرَّب إليه، وسبع مرات أُخَر شَعَرَ بك. لقد حرَّمتَ على عبادك – الحلقات الصغرى – التقاطَ نورك وحرارتك، واستقبالَ رحمتك الواسعة وهي في طريقها. فابعث الآن إلى أَمَتِك مثل ذلك."

3. فقال ربُّ الوجه المشع: "سأبعث إليكِ بالنار ساعة يبدأ عملُكِ. ارفعي صوتك إلى عوالم أخرى؛ التمسي من والدك – ربِّ السِّدرة – أبناءه. [...] سيكون شعبك تحت حُكْم الآباء؛ وسيكون بَشَرُك مائتين. أما بَشَرُ ربِّ الحكمة – لا أبناء القمر – فخالدون. كفِّي عن الشكوى. فجلودك السبعة مازالت عليكِ. [...] مازلتِ غير مستعدة؛ وبَشَرُك غير مستعدين."

4. بعد ثلاث مخضات عظيمة رَمَتِ [الأرض] عنها [جلودها] الثلاثة القديمة ولبست سبعة جلود جديدة، ثم استوت في [جلدها] الأول.

5. ودارت العجلة ثلاثين كورًا أُخَر. وبنت أشكالاًً: حجارة طرية قَسَت، ونباتات قاسية طريت. [بَنَتِ] الظاهر من الباطن، حشراتٍ وحُيَيْوينات. وكلما اجتاحت [هذه] الأمَّ نفضتْها عن ظهرها. [...] وبعد ثلاثين كورًا استدارت. استلقتْ على ظهرها؛ على جنبها. [...] وما كانت لتدعو أبناء السماء، وما كانت لتسأل أيًّا من أبناء الحكمة. صوَّرتْ من رحمها هي. ولفظت بشرًا مائيين، رهيبين، أشرارًا.

<تعليق>

والحق أقول، أيها الإخوة، أني في كلِّ مرة أقرأ كتابًا من كتب الحكمة القديمة، أقف مذهولاً أمام حقيقة جديدة لم أكن متنبهًا إليها من قبل. وأتأمل في هذا النص الذي يقدِّمه لنا الكتاب التيبتي، يحدِّثنا، فيما سبق وأوردناه، بلغته الشاعرية وتعبيراته الغامضة، عن نشوء الحياة.

وما لفت انتباهي هنا، وأنا أقرأ هذا النص للمرة الأخيرة عند كتابتي لهذه التأملات، أنه، قبل آلاف السنين من الآن، في عصور نَصِفُها اليوم بالـ"همجية"، كان بشرٌ يتحدثون، من خلال وصفهم لتلك الـ"الحجارة [الـ]ـطرية [التي] قَسَتْ، و[الـ]ـنباتات [الـ]ـقاسية [التي] طريت، [وذلك] الظاهر [الذي بُنِيَ] من الباطن، [فأنجب تلك الـ]ـحشرات و[الـ]ـحييوينات، [التي] كلما اجتاحت هذه الأم [ويقصد الأرض] نفضتْها عن ظهرها..." – [يتحدثون] عن شكل معين من التطور الذي لم تدركه علومنا حتى ما قبل 150 سنة. كانوا يتحدثون – بلغة قد تكون أدق من لغتنا العلمية المعاصرة – عن نشوء الحياة من قلب الجماد.

ونتساءل اليوم عن ماهية الحياة – عن تلك الماهية التي قد لا يُعرَّف بها. ولكننا، تمييزًا لذلك العصفور الواقف على شرفة النافذة عن تلك الصخرة، نطلق على الأول تعبير "حي" وننعت الثانية بالـ"جماد"...

فنحاول، من خلال فيزيائنا، تلمُّس هذه الظاهرة، ونكاد ألا نتلمَّس أيَّ فارق بين الاثنين (أقصد بين الحيِّ والجماد) على الصعيد النووي والذري. ولكن، ما أن نرتقي إلى المستوى الجزيئي molecular حتى سرعان ما نتلمَّس ذلك الفارق الكامن بين الاثنين، الذي يمكن التعبير عنه، من حيث العمق، بالقول إن الجسم الحي هو، من حيث تركيب جزيئاته، أكثر تنظيمًا من الآخر، إن لم نقل أغنى معلوماتيًّا. ولكن، هل يكفي هذا لتعريف الحياة؟ وهل كان ذلك التطور الذي حصل – ذلك التراكم المعلوماتي – نتيجة للمصادفة؟

كلُّ الدلائل تشير اليوم أنه لم تكن هناك أية مصادفة: فالحياة، ككمون، كانت موجودة قطعًا في قلب ما ندعوه جمادًا، أيًا كان هذا الجماد. وهذا ما أثبته حينئذٍ عالم الكيمياء الكبير، الحائز على جائزة نوبل، إيليا بريغوجين.

وقصة الحياة، كما نتلمَّسها من خلال فيزيائنا، و/أو من خلال كتاب الحكمة التيبتي، هي قصة صيرورة وارتقاء من نظام أدنى إلى آخر أعلى؛ أو على الأقل، هذا ما يبدو لنا.

ونستذكر هنا، فيما يتعلق بتطور الأنواع، ومن خلالها (ومعها تطور الإنسان)، ما قاله ذات يوم العالم واللاهوتي تِلار دُهْ شاردان:

في وسعنا أن نتأمل الآن شجرة الحياة وهي تنتصب أمامنا. إنها شجرة غريبة – هذا ما لا شكَّ فيه. وفي وسعنا أن نسميها شجرة سلبية négative لسبب بسيط هو أن أغصانها وجذعها، على عكس ما يحدث مع أشجار غاباتنا الكبرى، تكشف عن فجوات تتسع على الدوام كلما انحدرنا نزولاً. إنها شجرة جامدة تقريبًا، كما تبدو لنا من خلال براعمها التي تسعى إلى التفتح. ومع أننا لا نعرف الكثير عن هذه البراعم، التي هي الآن نصف متفتحة، فإننا نلاحظ أن الشجرة قد رسمت بوضوح أوراقها المنضَّدة بعضها فوق بعض، التي تمثل مختلف الأنواع الحية. إنها تنتصب شامخة أمامنا لتغطي، من خلال فروعها الرئيسية وأبعادها الهائلة، الأرضَ كلَّها. ولا بدَّ لنا، قبل التعمق في سرِّها، من إلقاء نظرة فاحصة عليها للتعرف على المغزى من شهادتها.

ويتابع تِلار دُهْ شاردان يقول:

لا أحد يشك في الأصل الدائري لسديم لولبي، وفي الزيادة المتدرجة للجزيئات في قلب بلورة أو صاعدة، أو في تصلُّب الحزم الخشبية حول محور ساق الشجرة. فتلك الترتيبات الهندسية، التي تبدو لنا مستقرة كلَّ الاستقرار من حيث الظاهر، هي الأثر–العلامة والبرهان الذي لا يُدحَض على الحركة المجردة kinematics التي تجعل من غير الممكن لمن يتأملها التردد، ولو للحظة واحدة، في الإقرار بالأصول التطورية للحياة على أرضنا.

... فكيفما نظرنا، من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأكبر إلى الأصغر، نجد بنية مرئية واحدة نؤكد على تصميمها الذي يقوِّيه ترتيب الظلال والفراغات ويطيله (وليس في قولنا هذا فرضية!) – تنظيم تلقائي من حيث ظاهره للعناصر التي لم نشاهدها من قبل والتي اكتشفها هذا العصر. ويجد كلُّ شكل اكتُشِفَ حديثًا مكانه الطبيعي.

... وتكون الحياة، مثل جميع الأشكال في كون يثبت فيه الزمان كبعد رابع حجمي وبعد تطوري للطبيعة. أو لنقل إنها، من الوجهة التاريخية والمادية، تمثل عاملاً مساعدًا &Icirc;، يحدِّد مركز كلِّ شيء في المكان، وفي الزمان، وفي الشكل.

ونعود إلى سُوَرِنا لنتابع أسطورة نشأة وتطور الإنسان من خلال هذه الـ...

6

مقتطفات

10. وعندما قُضِيَ عليهم، أمستِ الأرض–الأم عارية. وطلبتْ أن تُجَفَّف.

11. وجاء ربُّ الأرباب. فَصَلَ المياه عن جسم [الأرض]، فكانت السماء من فوق، السماء الأولى.

19. وكانت الذرية الثانية هي الثمرة بالبرعمة والانبساط، [الذرية] اللاجنسية من التي لا جنس لها. كذا، أيها المريد، وُلدت الذرية الثانية.

21. وعندما شاخت الذرية، امتزجت المياهُ القديمة بالمياه الحديثة. وعندما تعكَّرتْ قطراتُها، تلاشتْ وتوارتْ في التيار الجديد، تيارِ الحياة الساخن. وصار ظاهر الأولى باطن الثانية. وأضحى الجناحُ القديم الظلَّ الجديد، وظلَّ الجناح.

22. عندئذٍ طوَّرتْ [الذرية] الثانية المولودين من البيضة: [الذرية] الثالثة. ونَضَحَ العَرَقُ، ونَمَتْ قطراتُه، وتصلَّبتُ القطرات واستدارت. أدفأتْها الشمس؛ والقمر برَّدها وشكَّلها؛ وغذَّتْها الريحُ حتى أينعتْ. وظلَّلتْ البجعةُ البيضاء [الآتية] من القبة النجمية القطرةَ الكبيرة – بيضةَ الذرية الآتية، الإنسانَ–البجعةَ من [الذرية] الثالثة المتأخرة: ذكر–أنثى أولاً، ثم رجل وامرأة.

27. وأمست الذرية الثالثة مركبةَ أرباب الحكمة. وخلقتْ "أبناءَ الإرادة واليوغا". بالقدرة السحرية خلقتْهم، الآباءَ القدُّوسين، أجدادَ الكُمَّل.

28. ومن قطرات العَرَق، من بقايا الجوهر – المادةِ [المستخلَصة] من الأجسام الميتة للبشر والحيوان من العجلة السابقة – ومن التراب المهمَل، وُلدت الحيوانات الأولى.

29. حيوانات ذوات عظام، تنانين الأغوار، وأفاعٍ طائرة أضيفت إلى الزواحف. والزواحف على الأرض نَبَتَتْ لها أجنحة؛ والمائيات ذوات الأعناق الطويلة أمست والدة طيور الجو.

30. وإبان الذرية الثالثة، نَمَتِ الحيوانات عديمات العظام وتغيرت: صارت حيوانات ذوات عظام، وتصلَّبتْ ظلالُها.

31. وانفصلت الحيوانات أولاً. وجعلت تتكاثر. وانفصل الإنسان المزدوج أيضًا. قال: "فلنتكاثر مثلها؛ فلنتجامَع وننسل مخلوقات." وهكذا كان.

35. عندئذٍ صار البشر أجمعين موهوبين عقلاً. وأدركوا خطيئة عديمي العقل.

36. وأصبحت الذرية الرابعة ناطقة.

37. وصار الواحد اثنين؛ وكذلك الأحياء والزواحف التي كانت ما تزال "أحدية" [خنثى] كلُّها، أسماكًا طائرة وأفاعيَ قوقعية الرأس عملاقة، [صارتْ اثنينية].

38. هكذا، مثنى مثنى، في المناطق السبع، وَلَدتْ الذريةُ الثالثة بَشَرَ الذرية الرابعة؛ وأمسى الآلهةُ غير إلهيين، والأرباب عديمي الربوبية.

<تعليق وتأمل>

ونكاد لا نجد أسلوبًا شاعريًّا أفضل للتعبير عن نشوء الأنواع وارتقائها، ذلك الذي عبَّر عنه في عصرنا المادي المعاصر تشارلز داروِن قبل 170 عامًا، وعاد إلى روحه في أواسط القرن الماضي مع تِلار دُهْ شاردان. فالحكمة القديمة، من خلال كتبها عمومًا، ومن خلال ما أوردناه من مقتطفات من كتابنا التيبتي تحديدًا، تؤكد لكلِّ من يتعمق فيها قليلاً أنها تنطلق من نظرة تطورية إلى الكون والحياة.

لهذا السبب، ربما، كان أبناؤها مضطهدين من قبل الجهالة السائدة على مرِّ العصور. ولهذا أيضًا، كانت معارفهم سرَّانية على مرِّ العصور. ولكن...

ما يميِّز كتابنا هذا عن سواه هو، ربما، نظرته التي تبدو أشمل من خلال تفاصيله؛ مما يجعله أقرب إلى ما نفترضه مجازًا بالكتاب–الأم (أم الكتاب؟) – الأصل الأول لجميع الكتب.

فهو، في حديثه عن نشأة الإنسان، يحدِّثنا عن تطور وارتقاء أشكال الحياة الأخرى التي رافقتْ تطوره، من إنسانية أولى خرجت من المياه وقَضَتْ؛ إلى تلك الثانية التي كانت ثنائية الجنس، كما يقول الكتاب التيبتي؛ فتلك الثالثة التي ولدت من "العَرَق"، فتمايزتْ من حيث الجنس وتطورت، فولدت تلك الرابعة التي ملكت العقل والنطق.

يقول تِلار دُهْ شاردان، متكلمًا على نشأة الإنسان وارتقائه:

أصحاب المذاهب الروحانية على حق عندما يدافعون بشدة عن تعالي transcendance الإنسان عن الطبيعة بأسرها. ولا يخطئ الماديون عندما يقولون إن الإنسان هو درجة أبعد في سلسلة الأشكال الحيوانية. وفي هذه الحالة، كما في حالات عديدة، يُحَلُّ التناقضُ بين المنطقين المتناقضين من خلال مراعاة ذلك الجانب الأساسي الذي يقول إن تبدلاً جوهريًّا قد حصل. فمن الخلية إلى الحيوان المفكر، ومن الذرة atome إلى الخلية، تستمر العملية نفسها والتركيز النفسي نفسه في الاتجاه نفسه؛ مما يؤدي، بسبب استمرارية العملية من وجهة نظر الفيزياء، إلى حدوث قفزات نوعية معينه، تبدو وكأنها فجائية، تكون نتيجتها حصول تحول في الموضوع.

... وفي الحقيقة، فإن التحول الذي قاد الإنسان في النهاية كان، من وجهة نظر عضوية، يعتمد على تطور يؤدي إلى دماغ أفضل.

ويتابع تِلار دو شاردان قائلاً:

... لقد أتى الإنسان إلى العالم في صمت. ولكنه في الواقع سار بنعومة شديدة، كما تبيِّن لنا تلك الأدوات الحجرية التي نلقاها من آثاره على امتداد العالم القديم، بدءًا من رأس الرجاء الصالح وحتى جدار بكين... وقد عاش كمجموعات وامتدت طفولته آلاف مؤلَّفة من السنين.

فهل كان تطور الإنسانية إبان طفولتها هو ما قصده كتابنا التيبتي، حين تحدث عن إنسانيات سابقة لإنسانيتنا الحالية، قَضَتْ في أثناء مسيرتها؟

وأذكِّر القارئ الكريم هاهنا – للمناسبة – أني سبق أن تحدثت في مقالة سابقة بعنوان "القارة الضائعة" عن أطلنطس، حيث أشرت، استنادًا إلى نفس المصدر، إلى وجود إنسانية سبقتْ إنسانيتنا الحالية، ثم زالت حين تجبَّرتْ، ولم يبقَ لنا منها سوى تلك الأساطير التي تتحدث عنها ويرفضها عقلنا العلموي المتشكِّك.

ومن حقِّ عقلنا أن يكون متشككًا طبعًا؛ خاصة وأن علومنا ومعارفنا المعاصرة لم تحدِّثنا من خلال نظرية ارتقاء الأنواع عن تلك الذريات البشرية التي توردها كتب الحكمة القديمة؛ مما يدفع البعض إلى رفض كلِّ ما تورده تلك الكتب، جملة وتفصيلاً، وتصنيفه كخرافات. ولكن...

يبقى شيء أساسي، محيِّر وملفت للنظر، يتحدث، من خلال ما عرضناه، عن حال كمون تشبه العدم، وعن نقطة انقطاع تشبه إلى حدٍّ كبير انفطارنا البدئي، وعن نشوء الأكوان وتطورها، وعن نشوء عالمنا (أقصد مجموعتنا الشمسية) وتطوره؛ وعن نشوء الحياة والإنسان وارتقائه إلى ما هو عليه اليوم.

وأتفكَّر أن هذا الكتاب المغرق في القدم، الذي عمره آلاف السنين، قد كُتِبَ في عصر كانت تسوده الجهالة والظلامية المطلقة، كما تفترض نظرياتنا المعاصرة! ونتفكر أن هذا الكتاب، كما رأينا، إنما يدلِّل على مستوى رفيع جدًّا من المعرفة والإحساس الشاعري، مما يتعارض قطعًا مع ما نفترضه لإنسانيتنا الغابرة من همجية. فمن أين أتت هذه المعرفة؟

وأتفكَّر أنه ليس في وسعنا قطعًا، من خلال معارفنا المتواضعة، الإجابة على هذا التساؤل. ولكن هذا لا يمنع أن التساؤل يبقى، على الرغم من كلِّ شيء، قائمًا ومحيرًا، يردِّد: من أين جاءت هذه المعرفة؟ أمِن إنسانية سبقت؟ أم من عالم موازٍ؟ أم من الاثنين معًا؟

وكتابنا التيبتي يحدثنا، من خلال عرضه لنشأة الإنسان، عن تصور طريف لبشرية "مَضَتْ"، نورده هاهنا، وقد شارفنا على...

7

النهاية...

40. إذ ذاك تطاولتْ [الذرية] الرابعة غرورًا. وقيل: "نحن الملوك، نحن الآلهة."

41. واتخذوا نساءً حسنات المرأى. زوجات من عديمي العقل، ضيِّقي الرأس. ونسلوا مُسوخًا: شياطين شريرة، ذكورًا وإناثًا، وكذلك أبالسة، إناثًا ناقصات العقل.

42. وابتنوا هياكل للجسم البشري. وتعبَّدوا للرجال وللنساء. عندئذٍ كفَّتِ العين الثالثة عن العمل.

43. وبنوا مدنًا ضخمة. بنوها [مستعملين] طينات ومعادن نادرة، ومن النيران المتقيَّأة ومن حجر الجبال الأبيض والحجر الأسود، نحتوا صورَهم على مقاسهم وصورتهم، وتعبَّدوا لها.

44. بنوا أصنامًا عظيمة بارتفاع تسعة ياتي [ثمانية أمتار]، بطول أجسامهم. كانت نيران باطنة قد أبادت أرض آبائهم. والمياهُ هدَّدت [الذرية] الرابعة.

45. وجاءت المياه العظيمة الأولى. وابتلعت الجزر السبع العظيمة.

46. ونجا القديسون، بينما هَلَكَ غير القديسين – ومعهم [هلكتْ] غالبية الحيوانات الضخمة، التي وُلدت من عَرَق الأرض.

48. وبقيت [الذرية] الخامسة المولودة من السلالة المقدسة؛ وحَكَمَها الملوك الإلهيون الأوائل.

49. [الأفاعي] الذين عاودوا النزول، وسالَموا [الذرية] الخامسة، وعلَّموها وثقَّفوها. [...]

خاتمة

وأفكر أن الكتاب التيبتي كان فعلاً، من خلال ما عرضناه أخيرًا، يتحدث عن بشرية مضت، ليست هي بشريتنا الحالية. فنحن لم نُصَبْ بعدُ تمامًا بالغرور من خلال ما أنجزناه؛ ونحن لم ندَّعِ تمامًا بعد المُلك والألوهية؛ ونحن لم نَصِرْ تمامًا بعدُ عبيدًا لملذاتنا، فنبحث دائمًا (مثلاً وليس حصرًا) عن طرف آخر جميل الشكل، فارغ الرأس، عديم القلب؛ ونحن لم ننجب قطعًا مسوخًا ووحوشًا؛ ونحن لم نستعمل القنبلة الذرِّية حتى اليوم إلا مرتين؛ ونحن لم نقضِ بعدُ على بيئتنا تمامًا؛ ونحن لم نعبد المادة جميعًا، حيث مازال بيننا بعض الشواذ – كلا، نحن لسنا تمامًا كهؤلاء الذين تحدث عنهم في زمانه الشيخ الأكبر حين قال:

إلا وربطه بحبِّ الدرهم
وما منهم أحدٌ أحبَّ إلهَه


كلا، نحن لسنا من وصفتْهم الأسطورةُ حين تحدثتْ عن تلك البشرية التي قَضَتْ. ولكننا، مع هذا، نقرأ بعضًا من أنفسنا، ونتلمَّس، ربما، احتمالاً لمصيرنا، من خلال ما أوْرَدَه كتابُنا التيبتي عن تلك البشرية المفترضة التي قَضَتْ بسببٍ من جهالتها. كما نتلمَّس بعضًا من أنفسنا حين نقرأ بعضًا مما جاء على لسان الحقِّ في الكتاب الكريم يقول أنْ "ألهاكم التكاثُر حتى زرتم المقابر". فنحن اليوم تسودنا الجهالة. لذلك، نحن اليوم أيضًا نتخوف من سوء المصير. ولكن...

لم لا نقلب الاتجاه قليلاً، فننظر إلى الأمور من وجهة نظر أخرى؟ كتلك التي تحدث عنها إدغار موران مثلاً حين قال:

نحن موجودون في قلب الصيرورة، وتلك الصيرورة تتضمن الماضي والحاضر والمستقبل. فكلُّ شخص يعيش في الحقيقة عدة حيوات: يعيش حياته الخاصة، وحياة من ينتمون إليه، وحياة المجتمع، والإنسانية، وحياة الحياة... إن كلاً منَّا يعيش كي يحافظ على الماضي ثم، من خلال الحاضر، كي يلد المستقبل. "فالحياة والطبيعة،" كما عبَّر تِلار دُهْ شاردان، "لا يمكن لهما أن تكونا مغلقتين على متطلباتنا المستقبلية [... ولا] الفكر، الذي هو ثمرة ملايين السنين، يمكن له أن يولد مختنقًا في كون تافه ومجهض لذاته." عندئذٍ، في وسعنا أن نتأكد من "... أنه يوجد أمامنا [دائمًا]، بشكل أو بآخر، وبشكل جماعي [أي كإنسانية]، ليس فقط استمرارية وإنما أيضًا بقاء.

لذلك، فإن القضية – كلَّ القضية – كانت بالأمس، مثلما هي حالها اليوم، في أن نرتقي وأن نتفهم تلك الحقيقة التي (على لسان تلار دُه شاردان أيضًا) تقول:

من أجل الوصول إلى ذلك الشكل الأعلى من الوجود، يجب علينا التطلع والسير على تلك الدروب، حيث تتناسق إلى الحدِّ الأقصى خطوطُ تطورنا.
تبارك النور القدوس الذي انبثقت به الحياة
أضف رد جديد
  • المواضيع المُتشابهه
    ردود
    مشاهدات
    آخر مشاركة

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“