ماهية النفس عند ابن سيناء
يعتبر ابن سيناء في طليعة الفلاسفة الكبار الذين شغلوا بموضوع النفس فاهتموا بها اهتماماً عظيماً واستطاع بما أوتيه من عبقرية خلاقة أن يجعل من علم النفس محوراً لفلسفته ورائه النفسية في العلم الطبيعي وان يسبر أعماق النفس النفس ليستخرج النظريات الغنية بالحقائق العرفانية السرمدية .
ولقد أثبت ابن سيناء وجود النفس بالحدس والاستدلال والاستنباط فقال :
(( [ ارجــع إلى نفسك وتأمل .. هل تغفل عن وجود ذاتك ولا تثبت نفسك ، ما عندي أن هذا يكون للمستبصر ، حتى أن النائم في نومه ، والسكران في سكره ، لا يعرف ذاته عن ذاته وإن لم يثبت تمثله لذاته في ذكره
ولو توهمت أن ذاتك قد خلقت أو خلقها صحيحة العقل والهيئة وفرض أنها على جمله من الوضع والهيئة لا تبصر أجزائها ولا تتلامس أعضائها بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت أنيتها ] ))
وبهذه الطريقة يثبت ابن سيناء وجود النفس الانسانية لأن الانسان لا يمكن ان يغفل مطلقاً عن إدراك ذاتها لأنها أقرب الأشياء لإليه وهو يدركها بوالسطة الحدس بدون آله أو واسطة .
ثم يقول ابن سيناء (( بماذا تدرك حينئذ ( قبله وبعده ) ذاتك ، وما المدرك من ذاتك ؟ أترى المدرك منك أحد مشاعرك ، ام عقلك ، وقوة غير مشاعرك وما يناسبها فإن كان عقلك وقوة مشاعرك بها تدرك أفبوسط تدرك ام بغير وسط ما أظنك تفتقر في ذلك حينئذ إلى وسط فإنه لا وسط فبقى أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوة أخرى ))
وهذا يعنى ان الأنسان يعرف نفسه بنفسه بدون واسطة شيء هو غير نفسه كما يدرك الأجسام الخارجة بواسطة الحس.
ومن ثم أن أبن سيناء يستدل على وجود النفس بالأفعال والحركات الصادرة عنها كما يستدل على وجود العلة بوجود المعلول وهذا يعنى ان النفس هي مبدأ للحركات لا من حيث ذاتها وإدراكها لنفسها بالحدس والاستدلال .
والنفس في رأي ابن سيناء اتصلت بالفيض في ثنايا ترتيب العقول وهي على هذه الحالة لا يمكن أن تأتي من شيء مادي كالجسم وليس للنفس وجود سابق على وجود بدنها بل كما حدث بدن شالح للحياة حدثت له نفس خاصة به ويكون ذلك البدن الحادث آلة تلك النفس وممكلتها .وفي قصيدة ابن سيناء الخالدة يعبر عن رأيه في ماهية النفس خير تعبير حيث يقول :
هَبَطت إليك مـن المحـل الأرفـع
ورقــاءُ ذاتُ تـعـززٍ وتمـنـعِ
محجوبة ٌ عن كل مُقلـةِ عـارفٍ
وهي التي سفـرت ولـم تتبرقـع
وصلت على كـرهٍ إليـك وربمـا
كرهت فراقك وهـي ذات تفجـع
أنِفتْ وما أنسـت فلمـا واصلـت
ألفـت مُجـاورةَ الخـراب البلقـع
وأظنها نسيـت عهـوداً بالحمـى
ومنـازلاً بفراقهـا لــم تقـنـع
حتى إذا إتصلـت بهـاء هبوطهـا
في ميم مركزها بـذات الأجـرع
علقت بها ثـاء الثقيـل فأصبحـت
بين المعالـم والطلـول والخضـع
تبكي وقد نسيت عهـوداً بالحمـى
بمدامـع تهمـي ولـمّـا تقـلـع
وتظل ساجعة على الدمـن التـى
درست بتكـرار الريـاح الأربـع
إذا عاقها الشرك الكثيف وصدهـا
قفص على الأوج الفسيح المربـع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمـى
ودنا الرحيل الى الفضاء الأوسـع
سجعت وقد كُشفت الغطاء فأبصرت
ما ليس يـدرك بالعيـون الهجـع
وغـدت مخالفـة لكـل مخـلـفٍ
عنها حليف التـرب غيـر مشيـع
وبَدَتْ تغـرد فـوق ذروة شاهـقٍ
والعلم يرفع كـل مـن لـم يرفـع
فلأي شيء أهبطـت مـن شامـخ
سام إلى قعر الحضيض الأوضـع
إن كـان أرسلهـا الإلـه لحكمـة
طويت عن الفطن اللبيـب الأروع
فهبوطهـا إن كـان ضربـة لازمٍ
لتكـون سامعـة لمـا لـم تسمـع
وتعود عالمـة بكـل خفيـة فـي
العالميـن فخرقهـا لـم يـرقـع
وهي التى قطع الزمـان طريقهـا
حتى لقد غربـت بغيـر المطلـع
فكأنهـا بـرق تألـق بالحـمـى
ثـم انطـوى فكأنـه لـم يلـمـع
ونستنتج من أراء ابن سيناء وأبحاثه الكثيرة في ماهية النفس بأنه يرى أن النفس ذات واحدة لها قوى كثيرة وأن كثرة قواها لا تعني عدم وحدتها وعلى ذلك تكون أفعال الإنسان كلها واقعة تحت تأثير مبدأ واحد ولو كانت قوى النفس مختلفة لا تجتمع عند ذات واحدة لكن للحس مبدأ يختلف عن مبدأ الغضب ولكن الغضب لا يكون إلا بطريق الحس وهذا برهان أكيد على أن قوة الحس وقوة الغضب تجتمعان في ذات واحدة وأن لها مبدأ واحد .
ويقول ابن سيناء :
إنما النفس كالزجاجة ، والعلم كالسراج ، وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنك حي وإذا أظلمت فإنك ميت
منقول
