الواقيعية والمثالية

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
سمير العاشقي
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 787
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

الواقيعية والمثالية

مشاركة بواسطة سمير العاشقي »

الواقعية والمثالية

كل واحد منا إذا نظر منا إذا نظر إلى نفسه واستعرض حياته ثم عاد القهقري إلى أيامه السوالف وأوغل في ماضيه إلى الحد الذي تعلقت

[ 67 ]

به ذاكرته فسوف يجد أنه منذ تفتحت عيناه وبدأ... يراقب جمال هذا الكون وقبحه- منذ هذا الوقت شاهد أشياء " هذا الكون"





[ 68 ]

خارجة عنه، وقام بأعمال حسب ما يحلو له (ولا ننسى أن نذكر هنا أنه خلال هذا الاستعراض سوف نصادف أيضاً بعض الأخطاء التي أدركناها تدريجياً عن طريق العلم والعمل).

[ 69 ]

وإذا كررنا هذا الشيء مرات عديدة ودققنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا فسوف تتضح جيداً تلك الحقيقة القائلة: (يوجد في

[ 70 ]

الواقع كون وهو خارج عني وأنا أستطيع أن أؤدي فيه أعمالاً حسب ما أحب).

[ 74 ]

فإذا أخذنا هذا المعلوم الفطري (لكي لا يختلط علينا الأمر لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات الفطرية أو الفطريات قد استعملت في المصطلحات بمعنيين:

الأول: تلك المعلومات الناشئة مباشرة من العقل، وتدركها القوة العقلية دون أن تعتمد على الحواس الخمس أو على أشياء أخرى، وإنما هي موجودة في العقل بحسب الطبع.

ويوجد اختلاف بين العلماء في أن معلومات كهذه أهي موجود فعلاً أم لا وجود لها؟

فجميع المعلومات عند أفلاطون فطرية وليس العلم إلا تذكراً.

أما ديكارت( Descartes) وأتباعه فيقولون أن بعض المعلومات فطرية وناشئة من العقل.

الثاني: تلك الحقائق المسلمة التي تتّفق عليها كل العقول ولا يمكن إنكارها ولا التشكيك فيها لأي أحد. وإذا أنكرها شخص أو تردد فيها فإنما يفعل ذلك لساناً، أما عملاً فهو يقبلها ويعمل بها. واللفظ الوارد في المتن يقصد به المعنى الثاني لا الأول) بعين الاعتبار ثم سمعنا أن في هذا العالم أشخاصاً لا يصدقون بأن للكون والوجود واقعاً خارجاً

[ 75 ]

عن ذواتنا أو هم منكرون للواقع أساساً، فستنتابنا لأول وهلة الحيرة ويتملكنا العجب، خاصة إذا علمنا أن هذه الفئة كانت من العلماء والباحثين الذين قضوا شطراً كبيراً من أعمارهم في سبيل إكتناه أسرار الوجود من قبيل بركلي (جورج بركلي Berkely) ( أسقف إنجليزي ولد عام 1685 م وتوفي سنة 1753.

والذي يبدو من شرح حياته ونظرياته أنه من أصحاب الحس وفلاسفة (Empiriste)،أي من القائلين بكون التجربة والحس منشأ لكل العلوم، ولا يعترف بالمعلومات العقلية والفطرية التي كان يعترف بها بعض فلاسفة أوربا. وهو يتبع في هذه النظرية العالم الإنجليزي المعاصر له جون لوك (G Lock) (G.، ولكنه في نفس الوقت لا يعترف بوجود خارجي للمحسوسات ولا يعترف بأن منشأ الإحساس هو التأثيرات الخارجية، ويذكر الأخطاء التي تقع فيها الحواس دليلاً على أن الإحساس لا يكون دليلاً على الوجود الخارجي للمحسوسات.

ويقول بركلي أن للتصورات الذهنية وجوداً خارجياً وبهذا يثبت وجود النفس، ويقول أن الإدراك يحتاج إلى مدرك وهو النفس.

ويظهر بركلي أنه لا ينكر وجود الأشياء، ولكنه يتساءل:

ما معنى قولنا: "أن الشيء الفلاني موجود ؟"

لو تعمقنا في هذه الجملة لوجدنا معناها:

"أنني أدرك وجوده".

فمثلاً إذا قلنا: الأرض موجودة، السماء موجودة، الجبال موجودة ، السماء موجودة، الجبال موجودة، البحار موجودة، أو قلنا: الشمس تشع النور أو هي جسم ذو بعد أو أن الأرض تدور، فإن كل هذه الجمل صحيحة ولكن معناها هو: أننا علمنا بهذا الشكل".

فالوجود إذن هو الوجود في إدراك الشخص المدرك.

وينكر بركلي أن يكون من السوفسطائيين ويعلّل ذلك بأنه لا ينكر وجود الموجودات، ولكنه يقول أن معنى الوجود عندي غير ما يتخيله الآخرون فهو عندي الوجود في إدراك الشخص المدرك.

فهو يعدّ الحس- إذن- منشأ للعلم ولكنه ينكر أن يكون منشأ الحس هو الوجود الخارجي للشيء المحسوس. وهو يعترف بوجود النفس فهي القوة المدركة عنده، ويعترف أيضاً بوجود الله، ويستدل على ذات الله بهذه الطريقة:

نحن نرى صور المحسوسات تظهر في أذهاننا بترتيب خاص ونظام معيّن ثم تذهب منه، وهذا الظهور والاختفاء خارج عن اختيار أنفسنا، فمثلاً أحياناً نحس أنه نهار وفي تلك الحال لا نستطيع الإحساس بأنه ليل، وبعده عدة ساعات نحسّ أنه ليل وفي تلك اللحظة لا نستطيع أن نحس بأنه نهار، وهكذا في سائر المدركات البصرية والسمعية وغيرهما فإن لها نظاماً خاصاً وترتيباً معيناً.

ومن هذا نعرف أن ذاتاً أخرى قد أوجدت هذه التصورات بذلك النظام والحساب في أذهاننا، وتلك الذات هي ذات الباري تعالى) وشهوبنهاور (شوبنهاور هو العالم الألماني الشهير ولد سنة 1788 م في ألمانيا وتوفى سنة 1860 ويعتبر شوبنهاور زعيم المتشائمين في العالم، وهو يعّد الحياة كلها ألماً وعذاباً، وهو يعدّ الدنيا مكاناً للحزن والغم، وقد عاش منعزلاً وقضى عمره أعزب.

ويقال أنه كان يعاني من الأوهام والمخاوف التي لا أساس لها، وتعتريه الوحشة من أقل الأشياء ، فمثلاً كان يقفز من نومه عندما يسمع أقل صوت ويندفع ليتناول سلاحه. ويقال أنه ورث روح التشاؤم من أبيه الذي كان تاجراً ملولاً ضيّق البال، وقد انتحر أخيراً.

وصادف شوبنهاور في الحياة كثيراً من ألوان الحرمان والحوادث السيئة. ولم تلاق كتبه في زمانه أي رواج، ولم يُظهر الناس رغبة في قراءتها، فصمّم على القيام بتدريس الفلسفة في جامعة برلين، ولكن أحداً من الطلاب لم يسجّل اسمه في ذلك الموضوع الذي تقرر أن يدرسه شوبنهاور ما عدا ثلاثة أشخاص لا يتمتعون باستعداد فلسفي، وأخيراً قرّر أن يقوم بتلقين معلوماته وأفكاره لامرأة خياطة كانت تسكن إلى جواره، ولكن النقاش بينهما أدى إلى النزاع والضرب، فأقامت المرأة عليه دعوى في المحكمة وأصدرت المحكمة حكماً بالغرامة على شوبنهاور لضربه وجرحه تلك المرأة.

ولا يعتقد شوبنهاور- على العكس من ديكارت وأتباعه - بالمعلومات والتصورات الناشئة من العقل، وهو يعدّ الحس منشأ لكل التصورات ومبدأ لكل العلوم، أما عمل العقل فهو التصرف فيما تظفر به الحواس فقط.

ومن هنا فإن شوبنهاور يعّد من المثاليين لأنه يعتبر كل المعلومات لا حقيقية لها، ويقول أن العالم الذي ندركه بالحس والشعور والعقل وهو عالم المادة إنما هو ذهني واستعراضي محض، وعلى العكس من بركلي الذي كان يظن إن وجود الإدراك وقوة المدرك حقيقية فإن شوبنهاور كان ينكر هذين الأمرين، ويعترف فقط بشيء واحد على أنه حقيقة وذلك هو "الإرادة" ويقول أن حقيقة الكون هي الإرادة، ويستطيع الإنسان أن يدرك حقيقته التي هي الإرادة بدون وساطة الحس والعقل.

ويقول إن الإرادة في ذاتها حقيقة مطلقة ومستقلة بالذات وخارجة عن حدود الزمان والمكان، وجميع حقائق العالم إنما هي درجات ومراتب من الإرادة.

وعلى هذا فمهما أنكر شوبنهاور حقيقة المعلومات وعدّ مثالياً ولكنه معترف بعالم حقيقي واحد وراء المعلومات وهو لا يدرك بالحس والشعور والعقل، وذلك العالم هو عالم الإرادة، ولهذا فنحن نستطيع أن نعدّه من "الواقعيين".

ولشوبنهاور عقائد خاصة تنبع من فلسفته في الحياة واللذّة والحب والمرأة والسعادة الحقيقية.

ويقول إن الإرادة التي هي أصل العالم وحقيقته هي أساس الشر والفساد لأنها في الأصل واحدة ولكنها لما جاءت إلى عالم الكثرة وهي تريد استمرار الوجود تحولت في الإفراد إلى حب الذات وعبادتها، وأدى حب الذات في الأفراد إلى النزاع والصراع والشر والفساد.

واللذة عند شوبنهاور أمر عدمي، أما الألم فهو شيء وجودي . والحب بين الرجل والمرأة سبب للتعاسة،وحقيقة هذا الحب أن الحياة تريد استمرار النسل، ولكي يتحمل الأفراد المصائب والمشاكل الناشئة من الناشئة من ذلك فإن الطبيعة تخدع الأفراد بهذه اللذات.

ويتساءل لماذا يحاول العاشقان أن يخفيا حركاتهما عن أعين الآخرين؟ ولماذا تحاول آلاف العيون بألم وحذر أن تتطلع إليهما؟

ثم يجيب:

لأن الحياة كلها تعاسة، والعاشقان يحاولان استمرار هذه التعاسة بالأنسال فهم يرتكبون جناية فظيعة، ومن الواضح أنه لو لم يكن لدينا هذا العشق لوصلت الدنيا إلى نهايتها واختتمت هذه المصائب المؤلمة.

وكان شوبنهاور معتقداً اعتقاداً راسخاً بفلسفة بوذا وهو يحصر السعادة الحقيقة في الرياضة النفسية وفي خنق إرادة الحياة ولا سيما اللقاء الجنسي مع النساء لكي ينقطع النسل ويرتاح النوع).

[ 79 ]

ولكننا إذا أخذنا أنفسنا بالصبر ودققنا في حياتهم واستعرضنا أوضاعهم فسنلاحظ أن كل واحد منهم لم تلده أمه سوفسطائياً ولم ينطلق لسانه أول ما انطلق بحديث السفسطة، ولم تفلت من يده فطرته الإنسانية"الإدراك والإرادة"، فهو مثلاً لم يبك مرة واحدة في المناسبة التي عليه فيها أن يضحك في المجال الذي عليه أن يبكي فيه، ولم يستعمل مرة واحدة حس البصر لكي يدرك المسموعات أو بالعكس، ولم يستعض بالنوم عن الأكل ولم يفعل العكس، ولم يغلق فمه لكي يتكلم، بل لم يتحدث حديثاً مبعثراً مشتتاً، وإنما هم يعيشون تماماً كما نعيش نحن (نحن الواقعيين) وبنفس ذلك النظام الخاص الموجود في الحياة الإنسانية، ويشاركوننا في الحياة النوعية والأفعال الإرادية . ومن هنا نفهم:

إن هؤلاء هم شركاؤنا في الحقيقة المذكورة في بداية هذا الحديث وفي كل المعلومات التي تشكل الأسس الأزلي لهذه الحقيقة (إذا حللنا هذه الحقيقة (يوجد خارج ذهني عالم أستطيع حسب رغبتي أن أؤدي فيه أعمالي) التي ركّبها الذهن من مجموع المعلومات والإدراكات التي تعدّ أجزاءها أو عناصرها الأصلية فسوف نلاحظ عدداً من المعلومات الأولية التي ساهمت في إيجاد هذه الحقيقة.

وتذكر هذه المعلومات الأولية في المنطق وتسمى تارة بالمبادئ التصورية والتصديقية (في مقالة التحليل والتركيب)، وتارة أخرى بالضروريات والبديهيات (في باب البرهان) ويتمتعون بالإدراكات ويقومون بالأفعال البسيطة الأولية كما هو موجود عندنا.

[ 80 ]

ثم بعدما نزلوا إلى ساحة الفكر والبحث ووصلوا إلى مستوى النضج اعتنقوا السفسطة والمثالية وأعلنوا بملء أفواههم أنه "لا يوجد إي واقع" ولكن بعضهم التفت إلى أن هذه الجملة تحتوي على تصديق كثير من الواقعيات فبادر إلى تغيير شكلها وقال: "نحن لا نعلم بالواقع"، ولاحظ بعضهم- بدقة أعظم- أن في هذه الجملة تصديقاً بحديث أنفسهم وبعلمهم (تفكيرهم)، لذلك لجأ إلى هذه العبارة:

"نحن لا نملك أي واقع خارج أنفسنا (ذواتنا وأفكارنا) " أي لا علم لنا بأي واقع خارج ذواتنا وأفكارنا.

وخطا بعضهم خطوات أوسع فأنكر كل شيء ما عدا ذاته وفكره فقال: "أنا لا أعلم بشيء إطلاقاً ما عدا نفسي وفكري".

والأدهى من هؤلاء جميعاً أولئك الذين أنكروا الواقع مطلقاً وحتى واقعية أنفسهم ولم يظهروا إلا التردد والشك.

ويتضح لنا من هذا الحديث أن حقيقة السفسطة هي إنكار العلم (الإدراك المطابق للواقع)، وكل الأدلة المنقولة عن هذه الفئة تدور حول هذا المحور وتؤكد هذا الأمر.

ومن هنا فإن الفلسفة تؤكد كون السفسطة مبنية على أساس

[ 81 ]

"عدم التناقص" لأن كل المعلومات تعتمد على هذه القضية بالتحليل الدقيق، فإذا سلمنا بها فأننا لا يمكننا إنكار أية حقيقة، وإذا أنكرناها لم نستطع أن نثبت أية حقيقة (سوف نوضح في المقالات اللاحقة أنه بإنكار أصل عدم التناقض لا يمكن إثبات أية حقيقة، وسوف نبسط الحديث عن الأصل الذي يذكره علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية تحت عنوان "أصل وحدة الضدين" الذي يعتبرونه الهادم لأصل عدم التناقض.

فالملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هنا هي أن العالم الفرنسي المعروف ديكارت حاول أن يعيد النظر في كل معلوماته وأن يضع أساساً جديداً فشك في أفكاره من المحسوسات والمنقولات والمعقولات، وقال لنفسه لعلّ الحقيقة ليست هي كما أحس أو أفكر أو كما قيل لي، ولعلّ هذه جميعاً خيال محض تتراءى لي كما يظهر للنائم الحلم أثناء نومه. وما هو الدليل على أنه ليس الأمر كذلك؟

إذن كل أفكاري (وحتى أصل عدم التناقض) باطلة، ولم يبق لي حتى أصل واحد يمكنني أن أعتمد عليه. وفي هذه اللحظة انتبه إلى أنه مهما شك وتردد في كل شيء ولكنه لا يمكن أن يشك في وجود الفكر، إذن أنا لا أتردد في وجود الفكر، وهذا يدل على وجود المفكر، فاطمأن بوجوده وقال" أنا أفكر إذن أنا موجود" (Cogito.ergo sum) ، وجعل هذا أساساً لسائر الأصول وتقدم نحو الأمام.

ولا نريد أن نستعرض هنا الإشكالات التي أوردها العلماء على استدلال ديكارت هذا، ولكننا نكتفي بذكر إشكال واحد يناسب هذا المقام لم نجد أحداً قد التفت إليه، وهو أن الإنسان إذا تردد في هذا الأصل (أصل عدم التناقض) أيضاً فهو لا يستطيع أن يصل إلى نتيجة (أنا أفكر إذن أنا موجود) لأنه مع فرض عدم امتناع التناقض يمكن القول أنا أفكر وفي نفس الوقت أنا لا أفكر إطلاقاً، ويمكن القول أيضاً أنا موجود وفي نفس الوقت أنا لست موجوداً.

إذن أصل امتناع التناقض في الحقيقة هو الأساس لجميع العلوم والإدراكات، وإذا صرفنا النظر عن الأصل فلن يستقّر لنا أي علم، ولهذا قال الفلاسفة منذ أقدم الأزمنة أن إنكار هذا الأصل لا يمكن معه إثبات أية حقيقة).

ومما ذكرناه في هذه المقدمة يتبين لنا أن هناك طرقاً متعددة

[ 82 ]

لدحض مذهب الفئة (إن صح إطلاق لفظ المذهب على هذا الزعم)، فهم بحديثهم هذا ومحاولتهم الفهم والتفهيم يعترفون بكثير من المعلومات دون أن يشعروا، منها:(أنه يوجد لدينا متكلم، ومخاطب، وكلام، ودلالة، وإرادة و... وأخيراً فإنه يوجد تأثير، وتوجد عليه ومعلولية مطلقة).

وكل واحد من هذه الأمور كاف ليردهم وليوضح الحق.



وهذه بعض الشبهات من المثالية

نحن مهما بسطنا أيدينا نحو الواقع فلن نظفر بشيء سوى الإدراك (الفكر)، إذن ليس لدينا شيء سوى أنفسنا وإدراكنا. وبعبارة أخرى نقول: كل واقع نظن أننا قد أثبتناه ليس هو في الحقيقة إلا فكرة جديدة قد نشأت فينا، إذن كيف يمكننا أن نقول (أن لدينا واقعاً خارجاً عنا وعن أفكارنا) بينما هذه الجملة بنفسها ليست شيئاً أكثر من فكرة وظن ( وبعبارة أخرى فإن الطرق التي تخيلها الإنسان للوصول إلى الواقع لن توصله إلى الواقع وإنما توصله إلى مجموعة من الأفكار فقط.

مثلاً يريد الإنسان أن يطلع على السماوات عن طريق الحس والمشاهدة مباشرة، أو يكتشف قانوناً كلياً في الطبيعة عن طريق التجربة، أو يثبت حقيقة عن طريق العقل والتفكير، فبعد أن يطيل النظر من وراء التلسكوب وبعد أن ينجز عملياته في المختبر وبعد أن يضغط على عقله بالتفكير، أيكون قد ظفر بشيء غير مجموعة من الإدراكات والصور الذهنية التي جمعها في ذاكرته؟ إذن هذه الطرق التي يتخيل الإنسان أنها توصله إلى الواقع لم توصله إلى الواقع بل أوصلته إلى مجموعة من الأفكار الذهنية فقط.) ؟

[ 83 ]

الجواب

في هذه الشبهة أثبت الواقع في الجملة وذلك هو "واقعنا وفكرنا" المعلوم لنا، وهذا الكلام صحيح. والذي ينبغي الالتفات إليه هو أن المستدل تصور إنه إذا كان في الخارج واقع حقيقي فلا بد في حالة تعلق العلم به أن نصبح واجدين لنفس ذلك الواقع، لا واجدين للعلم بالواقع، مع أن القضية بالعكس فالذي نظفر به هو العلم وليس المعلوم (الواقع).

وهذا تصور ساذج لأنه صحيح أن العلم وحده الذي نظفر به وليس المعلوم ولكنه غاب عنهم أننا نظفر بالعلم مقروناً بخاصته وهي الكاشفية (إن الشبهات التي تذكرها المثالية لتستنتج منها أموراً تخالف البديهيات والحقائق المسلمة لا قيمة لها، وكل أحد يعلم أنها مغالطات، ويقتنع عادة في جوابها بوضوح وبداهة الموضوع، ولكن الجواب العلمي والفلسفي لهذه المغالطات يحتاج إلى دقة عظيمة ويتوقف على معرفة حقيقة العلم (الإدراك) وقيمة المعلومات، وهذان الموضوعات مشروحان بالتفصيل في المقالتين الثالثة والرابعة . وسوف يأتي في الملاحظة الثالثة من هذه المقالة أن الفلسفة المادية الديالكتيكية قد اتخذت لنفسها في بيان حقيقة العلم نظرية مثالية مائة بالمائة مع أن المادية الديالكتيكية تعتبر نفسها النقطة المقابلة للمثالية.

وللجواب العلمي على هذه الشبهة الموجودة في المتن نكتفي بالجواب المذكور فيه أيضاً ويتلخص في أن للعلم خاصة الكاشفية عن الخارج، بل العلم هو عين الكشف عن الخارج وليس من الممكن أيضاً أن يوجد علم غير متصف بالكشف، وليس من الممكن أيضاً أن يوجد العلم والكشف ولا يوجد الواقع المكشوف، وإذا فرضنا أن الواقع المكشوف غير موجود، فالكاشفية إذن لا وجود لها، وإذا كانت الكاشفية غير موجودة فالعلم إذن غير موجود مع أن الخصم مقرّ بوجود العلم، وهذه الخاصة لا تنفك عنه، وإلا لم يبق علماً. ولا

[ 84 ]

يدعي أحد أننا عند العلم بالخارج سوف نضيف الواقع الخارجي إلى أنفسنا، وإنما الدعوى هي أننا نظفر بالعلم بالخارج فقط.

الشبهة الثانية

إن حواسنا التي هي أقوى الوسائل للعلم بالواقع الخارجي تخطئ كثيراً (فمثلاُ ترى العين الجسم البعيد أصغر والقريب جداً أكبر مما عليه في الخارج. وكذلك عندما ندير بأيدينا خيطاً في نهايته نار فإن العين ترى النار بشكل دائرة حينما ندير هذا الخيط. وهي ترى أيضاً قطرة المطر حينما تنزل من السحاب بشكل خط متصل، وكذلك بقية الحواس فمثلاً نحن ندرك الحرارة والبرودة بحس اللمس فلو فرضنا أن إحدى يدينا كانت حارة والأخرى باردة ثم غمسناهما معاً في ماء دافئ فسوف نشعر بإحدى يدينا أن الماء بارد وبالأخرى نحس به أنه حار.

وتوجد أخطاء كثيرة للحواس وهي مذكورة في الكتب العلمية والفلسفية. ويعتقد بعض العلماء أن أنواع أخطاء الحواس تصل إلى ثمانمائة) وكذلك الوسائل والطرق الأخرى غير الحواس فهي

[ 85 ]

مبتلاة بالأخطاء الكثيرة أيضاً، وهكذا فإن العلماء الذين تسلحوا بمختلف الوسائل ليصونوا أنفسهم عن الأخطاء لم يستطيعوا أن يجنبوا أنفسهم الخطأ. إذن كيف نثق ونطمئن بوجود واقع حقيقي؟

الجواب

لا يمكن لأحد أن يدعي (إن وقوع الخطأ في بعض الموارد لا يدعو إلى سلب الاعتماد من كل المعلومات والفطريات والحقائق المسلمة، ولا يبرر إنكار جميع الواقعيات الخارجية التي توصلنا إليها عن طريق العلم، بل هذا الإدراك للخطأ بنفسه دليل على وجود سلسلة من الحقائق المسلمة التي جعلناها مقياساً وعرفنا الخطأ عن طريقها، وإلا لم يكن معنى لإدراكنا للخطأ، لأنه لا يمكن تصحيح الخطأ بخطأ آخر.

وعلاوة على هذا فإن العالم المثالي- مع كل الأخطاء التي وجدها من الحس- لم يحدث له مرة أن أغلق عينيه وسار في الطريق، أو عندما يرى الطريق والبئر فإنه يساوي بينهما ويقول أن كلا منهما فكرة .

وكذلك فمع كل الأخطاء التي لاحظها في العقل لم يحدث له أن أعرض عن الاستدلال العقلي، وإنما هو قد أوضح هذه الشبهات المثالية عن طريق الاستدلال العقلي، وإذا كان الاستدلال العقلي باطلاً فاستدلاله على المثالية أيضاً باطل) أننا لا نخطئ ولا نزل في معلوماتنا أو أن كل ما نفهمه فهو صحيح وصادق، والفلسفة أيضاً لا تدعي هذا الشيء لنفسها، وإنما تدعي الفلسفة أن لدينا- في الجملة- واقعاً خارجاً عن ذواتنا، ويمكن إثبات هذا الواقع عن طريق الفطرة، لأننا لو لم نثبته لم نرتب أثراً منظماً على الموضوعات فلم نفكر

[ 86 ]

في الأكل بعد الجوع مباشرة، ولم نهرب بعد الإحساس بالخطر مباشرة، ولم نرغب بعد الإحساس بالنفع... وهكذا ...

(مع أن الفكر الفارغ تحت تصرفنا ومن آثارنا، ونحن نستطيع في كل وقت أن نصوغ أفكاراً كما يحلو لنا).

الشبهة الثالثة

لو كانت كاشفية العلم والفكر عن الخارج صفة واقعية ولم تكن ظناً وفكرة فحسب لما أمكن أن تتخلف عن موصوفها أبداً مع أننا نقطع بتورطنا في كثير من الأفكار المليئة بالتناقص ومن المعلومات المليئة بالأخطاء، لأنه ليس من الممكن أن يتصور وجود الخطأ والغلط في الواقع الخارجي، ولا يمكن أن يكون وجودنا وتفكيرنا مخطئاً.

إذن لا نستطيع أن نثبت شيئاً ما عدا أنفسنا وأفكارنا.

وأما كاشفية العلم عن الخارج فليست شيئاً سوى ظن من الظنون.



الجواب

إن هذه الشبهة لا تؤمّن للمثاليين غرضهم ولا يمكن أن نستنتج منها السفسطة، والشيء الوحيد الذي يمكن تؤديه هذه الشبهة هو أن تضع أمامنا هذا التساؤل:

إذا كانت للعلم والإدراك خاصة الكشف ذاتاً فلا بد أن

[ 87 ]

لا يكون هناك خطأ ولا بد أن يكونا دائماً مرتبطين بالواقع الخارجي وحينئذ نتساءل : من أين جاءتنا إذن كل هذه الأخطاء؟

والأخطاء أهي مطلقة أم نسبية؟

وسوف نجيب على هذا في مقالة منفصلة (وهي المقالة الرابعة).







نعود إلى بداية الحديث

........... كما قلنا في بدء الحديث أن كلام السوفسطائي قد نظم على أساس أنه ينكر الواقع، ولكنه في الحقيقة سيق من أجل إنكار وجود العلم (وهو الإدراك اليقيني المطابق للواقع). فإذا كان كلامه يتضمن إنكار الواقع مع التسليم بوجود العلم (نحن نعلم بعد وجود أي شيء) فإن نتيجة هذا هو إثبات العلم بعدم الواقع، وهذا بنفسه إثبات لواقع معين وهو (أنا-العلم-خاصة كاشفية العلم عن عدم الواقع).

وإذا سلّمنا بخاصة الكشف في هذا العلم فلا يمكننا حينئذ أن نسلبها عن سائر أفراد العلم.

وتستنتج من هذا الحديث عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى

لا ينبغي لنا أن نعد الأشخاص الذين يثبتون لوناً من ألوان

[ 88 ]

الواقع الخارجي ضمن المثاليين، ولا أن نطلق عليهم اسم السوفسطائيين من قبيل:

أولاً: أولئك الأشخاص الذين نفوا كون خواص الأجسام - ما عدا الخواص الهندسية - جزءاً من الواقع، واعتبروا تلك الخواص من تأليف الذهن (كما يقول ديكارت بأن الخواص الهندسية للجسم موجودة أما الخواص غير الهندسية - وهي المسماة عند بالخواص الثانوية من قبيل اللون والرائحة والطعم والكيفيات الأخرى المتوهمة- فهي صنيعة الذهن).

ثانيـاً: وبعض الفئات التي أنكرت وجود الجسم وخواصه واعتبرت العالم مجرداً من المادة.

ثالثـاً: بعض الأفراد الذين اعتبروا المكان وهماً.

رابعـاً: والبعض الذي اعتبر الزمان وهماً.

خامساً: والبعض الآخر الذي اعتبر الزمان والمكان وهمين.

وصحيح أن هذه الاعتقادات فارغة ولا أساس لها، وقد أزاحت الفلسفة الستار عنها وأوضحت بطلان كل منها وضوح الشمس، ولكن لأن أصحابها معتقدون بعالم واقعي فلا يمكن تسميتهم بالسوفسطائيين ولا إدراجهم ضمن أعداء العلم (ليرجع من شاء إلى التعليقة في الصفحة (72)).

ولا ينبغي أن نعد من المثاليين أشخاصاً من غير الفلاسفة سلكوا سبيلاً غير الاستدلال، ولا ينبغي أن نقيمهم بهذا المقياس من قبيل:

[ 89 ]

1-فئة من العارفين المنكرين لأسلوب الاستدلال والقائلين بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الحقائق هو الكشف الذوقي.

2-وفئة من أصحاب الشرائع الذين حصروا المعلومات الصحيحة بتلك المأخوذة من طريق الوحي السماوي وأديان الرسل والأنبياء.

وكذلك طائفة أخرى من الفلاسفة السائرين على أسلوب علمي والقائلين بأن العالم مؤلف من شيئين مختلفين هما المادي والمجرد والسالكين لسبيل عملي يدعو إلى التنزه من العالم المادي الفاني والارتقاء نحو العالم العقلي الباقي. وينقل هذا عن هرمس (يتعرض التاريخ القديم لمجموعة من الحكماء وعلماء النجوم المعروفين بـ "الهرامسة"، وهم سابقون للمرحلة اليونانية، وأشهر هؤلاء هو هرمس الهرامسة. وعندما يطلق اسم هرمس وحده فهو المقصود به. ولما كان هذا التاريخ موغلاً في القدم فإنه لم يبق منه شيء صحيح يمكن الاعتماد عليه .

وكتب القفطي في تاريخ الحكماء:

"ولد هرمس الهرامسة في مصر قبل الطوفان، وهو نفسه المعروف عند العبريين باسم "أخنوخ"، وعند اليونانيين باسم " أرميس"، وعند العرب باسم "ادريس"، وهو الذي أعطاه الله النعم الثلاث (الملك والحكمة والنبوة)".

ويستنبط من أقوال المؤرخين القدماء أن هرمس هو النبي إدريس المذكور في الكتب السماوية.

وينقل الأشكوري في محبوب القلوب عن تاريخ ابن الجوزي: أن هرمس هو أول شخص استخرج الحكمة وعلم النجوم بالإلهام الإلهي. وينقل عن أبي معشر البلخي أن الهرامسة كانوا كثيرين وكان أعلمهم ثلاثة أشخاص. وكان لهرمس دار في مصر وهو الذي بنى الأهرام) وبليناس (بليناس هذا هو من أقدم الحكماء وينسب إليه كتاب موجود بين أيدينا يسمى بعلل بليناس،ويقال إنه أحد الهرامسة.

وقد ترجم علل بليناس على يد القسيس ساخنوس. وتوجد في أول هذا الكتاب قصة عجيبة تشتمل على لون من المكاشفة فهو ينقل عن لسان بليناس قوله:

"كنت يتيماً ومن أهل طوانة ولم أكن أملك شيئاً وكان في بلدنا تمثال صخري نصب على عمود من الخشب وقد كتب عليه: أنا هرمس الذي خصّه الله بنعمته، وقد جعلت هذه علامة واضحة ولكني أخفيت رأسها لئلا يعرف ذلك الرأس إلا حكيم مثلي.

وكتب على صدر ذلك التمثال: من أحب أن يعرف سر الخلقة وصنعة الطبيعة فلينظر إلى ما تحت قدمي.

ولم يلتفت الناس إلى المقصود الحقيقي من هذه الجملة، حتى كبرت أنا وأصبح سنّي ملائماً وقرأت ما كتب على صدر التمثال واستوعبت مقصوده. وحينئذ حفرت قطعة من الخشب كانت تستقر تحت التمثال فوجدت ثقباً مظلماً لا يستطيع أحد أن يُدخل إليه نوراً لأنه كلما حاول إنسان أن يدخل شيئاً من النار للإضاءة به هبّت من ذلك الثقب ريح عاتية تطفئ تلك النار. فسيطر عليّ الهمَّ وغلبني النوم، ورأيت فيما يرى النائم صورة تشبه صورتي فنادتني: انهض يا بلينوس وأدخل هذه الحفرة التي هي تحت الأرض. فأجبت: إنها مظلمة ولا يمكن لأحد أن يقتحمها . فأمرتني الصورة أن أجعل النار بكيفية خاصة في جسم شفاف لئلا تنطفئ واستضيء بها في ذلك الظلام. فغمرني السرور وتأكدت بأني وجدت الطريق فسألت الصورة: من أنت أيتها التي مننت عليّ بكل هذا الفضل؟

فأجابتني: أنا معك وسرّك الباطن. وعندئذ استيقظت من النوم فرحاً مسروراً وعملتُ ما أمرتْ، وبمجرد أن دخلت الحفرة شاهدت تمثالاً لرجل يحمل لوحاً في يده وأمامه كتاب، وقد كتب في اللوح: هنا صنعة الطبيعة، وكتب في الكتاب: هذا سرّ الخلقة. وقد تعلمت أنا علم علل الأشياء من هناك ومن ثم فقد اشتهرت بالحكمة") وفيثاغورس (ولد فيثاغورس ( Pithagore) في القرن السادس قبل الميلاد وهو من أشهر الحكماء السابقين. وعقيدته مشهورة في باب الأعداد وإن العدد هو أصل الوجود وإن الأشياء كلها تظهر بوساطة التركيب العددي.وكل هذا مذكور في الكتب الفلسفية. وينقل الشيخ الرئيس في الشفاء شرحاً مفصلاً لعقيدته ويجيب عليها.


8O 8O 8O
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••
صورة العضو الرمزية
بشرى سارة
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 795
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

مشاركة بواسطة بشرى سارة »

:arrow: :arrow: :arrow: هايل ورائع يا اخى الفاضل سمير العاشقى
تعجبنى جدا نظريات ديكارت فى الفلسفة
جميل جدا شرحك للموضوع وتقسيمه الى فقرات
الله عليك يا سمير :arrow:
الله يجعل التميز حليفك دائما
تحياتى وتقديرى وسلامى


صورة
أضف رد جديد

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“