قيمة المعلومات

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
سمير العاشقي
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 787
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

قيمة المعلومات

مشاركة بواسطة سمير العاشقي »

قيمة المعلومات

مقدمة صاحب التعليقة

من الأفضل أن نسمي قيمة المعلومات باسم قيمة العلوم والإدراكات، ويهدف هذا الموضوع إلى توضيح عدة أمور:

منها: إلى أي حد تكون إدراكاتنا حقيقية (أي مطابقة للواقع)؟

ومنها: أيمكن الاطمئنان بأن ما ندركه عن طريق الحس والعقل موجود في الواقع ونفس الأمر بهذا الشكل؟ أم يحتمل أن لا يكون هناك واقع إطلاقاً، وكل المعلومات إنما هي عبث في عبث؟ أم يحتمل أن يكون هناك واقع ولكننا ندركه بشكل آخر حسب البيئة الزمانية والمكانية التي تحيط بعقولنا؟

وقد مرّ علينا في المقالة الأولى أن الفلسفة تطلق على بعض الإدراكات اسم الحقائق (وهي المطابقة للواقع)، وهي تسعى لكي تميز الحقائق من الاعتباريات والأوهام. ومن البديهي أن هذا السعي لا يكون مثمراً ما لم يكن ذهن الإنسان مستعداً لإدراك الواقع كما هو موجود، ولو كان الذهن يدرك الأشياء-دائماً-بكيفيات مخلوقة من عنده لأضحت الفلسفة بلا موضوع ولأمسى سعيها عبثاً.

فمن ناحية يمكن اعتبار مسألة قيمة المعلومات أساس المسائل الأخرى لأن المذاهب المختلفة تفرق فيها. فعند هذه المسألة تفترق


" الواقعية"(Realism) عن "المثالية"(Idealism) وعن "السوفسطائية"(Sophism)، ومنها تنفصل سبيل الفلسفة اليقينية "الدكماتية"(Dogmatism) التي جاء بها أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من قدماء اليونان وجميع الحكماء في المرحلة الإسلامية، وديكارت(Descartes) وليبنتس (Leibniz)ومجموعة أخرى من الفلاسفة المحدثين في أوربا عن سبيل فلسفة الشك "السيتسية"(Scepticism) التي أسسها بيرون( Pyron) زهاء القرن الرابع قبل الميلاد في اليونان وكان لها اتباع في اليونان ثم في الإسكندرية وأخيراً في أوربا.

وصحيح أن هذه المقالة قد اقتصرت على موضوع كيفية وقوع الخطأ الذي راح يتعلل به المثاليون، ولكن قيمة المعلومات قد أُثبتت إجمالاً في المقالة الثانية أثناء أجوبتنا على شبهات المثاليين، ونقدنا في الملاحظة الثانية من تلك المقالة (ص93-107) عقائد المادية الديالكتيكية في هذه المسألة ونأمل أن يتمكن القارئ نتيجة لقراءة هذه المقالة "قيمة المعلومات" والمقالة الثانية التي سبق ذكرها والمقالة الخامسة التي سوف تجئ بعنوان "ظهور الكثرة في العلم" مع التعليقات التي كتبت لها- نتيجة لقراءة هذه جميعاً نأمل أن يجد حلاً لهذه المسائل الفلسفية المهمة:


1-قيمة المعلومات.

2-طريق الحصول على العلم.

3-تعيين حدود العلم.

ويتضح لنا وجوب إمعان النظر في هذه المسائل إذا لاحظنا أن الفلاسفة الأوربيين خلال القرون الأربعة الأخيرة قد قصروا جهودهم على دراسة العلم والمسائل لمتعلقة به، وكانت هذه المواضيع الثلاثة السابقة الذكر محور مسائل الفلسفة الأوربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مسائل العلم في الفلسفة الإسلامية هي من أكثر المسائل تعقيداُ وأشدّها غموضاً.

ولأهمية مسألة "قيمة المعلومات"، التي هي موضوع هذه المقالة، ولكون العلماء الماديين معتقدين بعقائد خاصة فيما يتعلق بها وهم يذكرونها عند تناولهم موضوع "قيمة المعلومات"، فنحن نقدم بمقدمة مفصلة لهذه المقالة ليزول كل غموض يكتنف هذه المواضيع. ونسعى في هذه المقدمة إلى ذكر خلاصة لاتجاه الأفكار ومسير العقائد منذ العصور التاريخية الغارقة في القدم وحتى العصر الحاضر فيما يتعلق بهذه المسألة. ونترك تفصيل المسألتين الأخريين إلى المقالة الخامسة.

والقراء الذين يحرصون على معرفة الأسلوب الواقعي-الذي تنهض هذه المقالات بعبء توضيحه- سوف يطلعون خلال بحثنا لموضوع "الحقيقة" في هذه المقدمة على مواقف كثير من المذاهب الفلسفية التي تزعم أنها تلتزم بالأسلوب الواقعي، ولكنها سلكت سبيلاً في "قيمة المعلومات" يبعدها كثيراً عن الواقعية ويلقي بها في مزالق المثالية. ونخصّ بالذكر المادية الديالكتيكية التي تعدّ نفسها


واقعية مائة بالمائة ولكنها انحرفت في مسألة "قيمة المعلومات" وبيان الحقيقة إلى حدّ أنها وقعت في لجج "السفسطة" ومذهب الشك وهي لا تعلم بذلك.

قيمة المعلومات:

أيكون الواقع ونفس الأمر مطابقاً لما نحسّه ونتعقّله أم لا؟ وبعبارة أخري فإن بحثنا يدور حول كون إدراكاتنا حقيقية ومطابقة للواقع أم لا.

وقبل أن نلج في صميم الموضوع لابد من البحث عن تعريف للحقيقة بأسلوب فلسفي.

ماذا تعني الحقيقة؟

يطلق العرف كلمة الحقيقة على معانٍ غير مقصودة هنا، والمقصود منها هنا هو المفهوم الفلسفي لهذه الكلمة. ومن السهل أن نفهم تعريف الحقيقة بالأسلوب الفلسفي، فالفلسفة تستعمل "الحقيقة" مرادفة-عادة-لكلمة "الصدق" أو "الصحة"، وتطلق على القضية الذهنية المطابقة للواقع اسم "الحقيقة". أما "الخطأ" و "الكذب" و "الغلط" فهو يطلق على القضية الذهنية التي لا تطابق الواقع فالاعتقاد مثلاً بأن "الأربعة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وأن "الأرض تدور حول الشمس" هو اعتقاد حقيقي وصادق وصحيح، أما الاعتقاد بأن "الثلاثة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وإن "الشمس تدور حول الأرض" فهو اعتقاد مخطئ وكاذب.

إذن كلمة "الحقيقة" هي وصف للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع ونفس الأمر.




ويجري عادة في الإصلاح الحديث إطلاق اسم "الواقع" على الواقع الخارجي ونفس الأمر، ولا يطلق عليه اسم "الحقيقية"، ونحن مقتفون أثر هذا الاستعمال، ففي أي مكان نذكر الواقع فنحن نقصد به ذات الواقع ونفس الأمر، وكلما ذكرنا الحقيقة فنحن نقصد ذلك الإدراك المطابق للواقع.

ويفسر الفلاسفة-منذ أقدم العصور- الصدق والصحة بهذا المعنى الذي ذكرناه، فكلما قالوا أن الموضوع الكذائي حقيقي أو صادق أو صحيح فهم يقصدون أنه مطابق للواقع، وإذا قالوا أنه مخطئ أو كاذب أو غلط فهم يعنون أنه لا يطابق الواقع.

ويذكر المنطقيون والفلاسفة الأقدمون مبحثاً بعنوان "المناط في صدق القضايا وكذبها" يجري البحث فيه على هذا الأساس أيضاً.

ولكن بعض العلماء المحدثين قد أورد إشكالات على هذا التعريف (سوف يأتي بيان هذه الإشكالات ضمن كلمات هؤلاء) واعتقد أنها لا يمكن حلّها ولهذا فهو قد اعتبر أشياء أخرى مقياساً لصدق القضايا وحقيقتها "(ولم يعتبر المطابقة للواقع مقياساً)، وعرفوا الحقيقة بإشكال أخرى تنقذهم-كما يتخيلون- من تلك المحاذير.

وهذه هي بعض التعاريف والتفسيرات التي قدمها بعض العلماء يقول المفكر الفرنسي الشهير "أوجست كونت" (August comte) مؤسس "الفلسفة الوضعية"(Positivism):


"إن الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تتفق عيها الأذهان في زمان واحد".

فهذا الكاتب لا يعتبر اتفاق الأذهان جميعاً في زمان ما علامة على الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة لا تعني شيئاً غير هذا.

أما فيلسين شاله (F.Chaluis) الذي اختار عقيدة أوجست كنت في باب "الحقيقة" فهو يقول في كتاب الفلسفة العلمية- فصل قيمة العلم وحدوده:

"يقال عادة في تعريف الحقيقة (أو الصدق) أنها مطابقة الفكر لموضوعه أو مطابقة الفكر للواقع. ولكن هذا التعريف لا ينطبق على الحقائق الرياضية التي ليس لموضوعها وجود خارجي، وهو لا ينسجم أيضاً مع الحقائق النفسية التي كل وجودها ذهني، وهو لا يتلاءم مع الحقائق التاريخية التي يكون موضوعها قد ذهب حسب التعريف. ولا يخلو هذا التعريف من الأشكال إذا اخترناه بالنسبة إلى الحقائق التجريبية لأنه بالقياس إلى الذهن لا يكون الموضوع الخارجي سوى مجموعة من الإحساسات والصور فقط وليس شيئاً آخر". إلى أن يقول: "وحسب القول العميق لأوجست كنت فإن الحقيقة تعني انسجام كل الأفكار في ذهن الفرد واتفاق عقول كل أفراد المجتمع الإنساني في مرحلة تاريخية معينة بحيث تتحقق الوحدة المعنوية".

أما ويليام جيمس (William james) الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي الشهير المؤسس للفلسفة "النفعية" (البراجماتية) (Pragmatism)فهو يعرف بشكل آخر فيقول:


"الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تؤثر في العمل تأثيراً مفيداً".

فهذا العالم يجعل جملة " أنه مفيد" مرادفة لجملة "أنه حقيقي".

ولا يعتبر هذا العالم كون الشيء مفيداً في العمل علامة على أنه حقيقي وإنما هو يقول أن "الحقيقة" لا تعني شيئاً غير هذا.

وينقل المرحوم فروغي عن ويليام جيمس قوله:

"يقولون أن الحق هو صورة طبق الأصل من الأمر الواقع، يعني أن القول المطابق للواقع هو الحق. حسن، ولكن ما هو هذا الواقع الذي إذا وافقه القول أصبح حقاً؟ أهو أمر ثابت ولا يتغير؟ كلا، لأن العالم يتغير باستمرار ولا يوجد فيه شيء ثابت. إذن من الأفضل أن نقول: الحق هو ذلك الشيء الذي له تأثير نافع على ما هو موجود فعلاً، فالقول الذي له نتيجة صحيحة هو حق. وليس صحيحاً أن نقول: لما كان هذا حقاً فنتيجته لابد أن تكون صحيحة.

وتدعى فئة أن: "الحقيقة هي ذلك الفكر الذي أثبتته التجربة". ولا تعتبر هذه الفئة انطباق الفكر على التجربة ولا كونها عملية علامة على الحقيقة وإنما هي تقول أن معنى الحقيقة ليس شيئاً غير هذا.

وتزعم فئة أخرى: "أن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي يظهر نتيجة للتأثير المتبادل والمواجهة المتحققة بين الحواس والمادة الخارجية، فلو فرضنا أن إنسانين قد واجها واقعاً واحداً ولكنهما أدركاه بإدراكين مختلفين أي أن أعصاب كل منهما قد تأثرت بشكل مختلف، فكلا الإدراكين حقيقي، فلو رأى إنسان مثلاً أحد الألوان أخضر ورآه


الآخر أحمر فكلتا الرؤيتين حقيقية، لأن كلتيهما قد حدثتا نتيجة للاتصال الحاصل بين الحواس والخارج".

أما البعض الآخر فيزعم: "أن الحقيقة هي ذلك الشيء الذي هو أسهل بالنسبة إلى الذهن، فعندما نقول أن وجود العالم الخارجي حقيقة فهو يعني أن قبول ذلك أسهل للذهن، وليس له معنى آخر غير ذلك".

وفسّر بعضهم الحقيقة بشكل آخر فقال مثلاً:

"إن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي اهتدى إليه العقل بأسلوب علمي".

وواضح جداً إن هذه التعاريف ولتفسيرات ليست إلا "استسلاماً" لإشكالات المثاليين والسوفسطائيين والإشكالات الأخرى التي ذكرت ضمن كلام فيلسين شاله وويليام جيمس.

ونزاع الفلسفة والسفسطة، أو الواقعية والمثالية ليس نزاعاً لفظياً اصطلاحياً حتى نستطيع بتغيير الاصطلاح أن نفّر من محاذير وانحرافات المثالية.

أيوجد للسوفسطائيين حديث آخر غير إنكارهم خاصية الإدراكات في كونها مطابقة للواقع؟

أيمكن جعل "اتفاق كل العقول في زمان ما وعدم اتفاقهما" مقياساً لتمييز الأفكار العلمية والفلسفية من الأوهام السوفسطائية؟

أو أن المقياس هو كونها مفيدة وغير مفيدة؟ أهو مواجهة الحس للخارج وعدم مواجهته له؟

ألا يلزم من تفسير الحقيقة بهذا النحو نفي قيمة المعلومات ثم الانغماس في لجج المثالية ومذهب الشك؟


والمطلعون على المنطق والفلسفة الإسلامية يعلمون أن الإشكالات التي أوردها أمثال فيلسين شاله وويليام جيمس على التعريف القائل بأن الحقيقة هي مطابقة الأفكار للواقع قد وجدت حلولها في هذه الفلسفة وذلك المنطق وهي لا تشكل خطراً جديّاً.

وعلى هذا فالفيلسوف الواقعي الذي ينفر من الأصول المثالية ويبحث عن أسلوب ورؤية واقعية لا يجد بدّاً من تفسير الحقيقة كما فسّرها القدماء، واعتبار ما اعتبره القدماء "مقياساً للصدق".

ولا تفسّر هذه المقالات-التي تهدف إلى بيان الأسلوب الواقعي-الحقيقة ولا مقياس الصدق بأي معنى من هذه المعاني التي تودي في النهاية إلى المثالية والسفسطة، وإنما هي تفسرها بالمعنى الذي جرى عليه العلماء الماضون وأغلب العلماء المحدثين.

وقد تناولت الفلسفة القديمة مواضيع متعددة ومتنوعة فيما يتعلق بالحقيقة بهذا المعنى لا مذكور، وليس بإمكاننا أن نلّم بكل هذه البحوث، وإنما نقصد في هذا المجال أن نذكر بشكل مختصر بعض هذه الدراسات. ولهذا فنحن نتناول هنا بالبحث هذه المواضيع:

1-أللحقيقة وجود في الجملة أم كل إدراكات البشر وهمية وباطلة وعابثة؟

2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟

3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟

4-أتكون الحقيقة مؤقتة أم دائمة؟

5-أتكون الحقيقة قابلة للتحول والتكامل؟

6-لماذا تكون الحقيقة الناتجة من التجربة غير يقينية؟

7-أتكون الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

1-أللحقيقة وجود في الجملة؟

إن كون إدراكات الإنسان (في الجملة) حقيقية ومطابقة للواقع أمر بديهي.

وهذا يعني أن القضية القائلة: "إن المعلومات البشرية ليست وهميّة مائة بالمائة على العكس على العكس مما يدعيه المثاليون" واضحة جداً وهي ليست بحاجة إلى استدلال، بل الاستدلال على هذا الموضوع مستحيل وغير ممكن.

وهناك مجموعة من الحقائق المسلمة التي أطلقنا عليها اسم البديهيات في المقالة الثانية، وهي موجودة في عقل كل إنسان وحتى في عقول السوفسطائيين أنفسهم، فهم يعترفون بها في أعماق أنفسهم، ولا نجد في واقع الحياة سوفسطائياً واقعياً، أي بمعنى ذلك الشخص المتردد في كل شيء المنكر لكل حقيقة.

وعندما يحاول السوفسطائيون والمثاليون إثبات وقوع الأخطاء فهم يذكرون لذلك أدلة من الحس والعقل. وقد قلنا في جوابنا للشبهة الثانية من المقالة الثانية أن إدراك الخطأ نفسه دليل على وجود مجموعة من الحقائق المسلّمة لدينا وقد اتخذناها مقياساً ومعياراً ثم أدركنا الخطأ على أساسها، وإلا فلا يكون معنى للخطأ حينئذ، لأن الخطأ لا يمكن تصحيحه بخطأ آخر.

والغرض من هذا الحديث هو تنبيه كل إنسان إلى إدراكاته الفطرية، وليس الغرض منه الاستدلال وإقامة البرهان على المدّعى، فالشخص المنكر لكل الحقائق المسلمة (من الواضح أنه ينكرها باللسان فقط) يصبح الاستدلال بالنسبة إليه عبثاً ولغواً، لأن كل


استدلال لابد أن يعتمد على مقدمات، وهذه المقدمات إما أن تكون مستغنية عن الاستدلال وإما أن تكون معتمدة على أسس مستغنية عن الاستدلال، وإذا كان الطرف المقابل غير مذعن لأيّ أصل وهو يطلب لكل مقدمة دليلاً فإن ذلك يتسلسل إلى غير نهاية وعندئذ لا يمكن الحصول على أية نتيجة.

وقد تمسّك أحد الماديين في مقام ردّ سفسطة المثاليين وإثبات وجود العالم الخارجي بفرضية لابلاس في أن الأرض قد انفصلت عن الشمس وبقيت فترة طويلة في حالة التهاب وبعد ملايين السنين ظهرت الموجودات الحيّة ومن جملتها الإنسان ومن جملتها الشخص المثالي الذي يعتبر كل الأشياء ذهنية. وتخيّل هذا المادي أنه قد ردّ سفسطة المثاليين بدليل قاطع، ولكنّه من الواضح أن هذه الأدلة لا تفيد شيئاً في ردّ من يعدّ الشمس والأرض والإنسان وكل العالم صوراً ذهنية لا واقع لها، ويعدّ العلم والفلسفة هراءً لا معنى له.

وليس المقصود مما ذكر في المتن فيما يتعلق بكيفية وقوع الخطأ هو إقامة الدليل على ردّ ما يدعيه السوفسطائيون، وإنما المقصود منه الجواب على الشبهة (الشبهة الثانية من المقالة الثانية) التي ذكرت في باب كاشفية العلم وكيفية وقوع الخطأ في القوى الإدراكية.

وقد ذكر في متن هذه المقالة أنه لا يوجد علم بلا مكشوف وإن القوى المدركة لا تخطئ في عملها أبداً، وإن منشأ وقوع الأخطاء والإشتباهات أشياء أخرى ذكرت في محلها.

2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟

ننتقل من الحقائق المسلمة للعقل-التي نراها بالبداهة أوضح ما تكون- إلى المسائل الأخرى التي هي ليست واضحة لدينا وعلينا أن


نكتشفها عن طريق الاستدلال وإجهاد الفكر، وكما أن وجود مجموعة من الحقائق البديهية مسلّم لدينا فكذلك هذا الموضوع من المسلّمات عندنا أيضاً وهو أن الإنسان قد يخطئ ويتورط في اشتباه في بعض محاولاته العلمية وفي بعض استدلالاته، فلابد إذن من البحث والتساؤل بأنه:

أتوجد وسيلة لتمييز السليم من السقيم والحقيقة من الخطأ أم لا؟

وإذا كانت موجودة فما هي هذه الوسيلة؟

نعم هناك وسيله لهذا التمييز تسمى بالمنطق، ولعل أشهر وأقدم الأساليب المنطقية هو المنطق الذي وفّق أرسطو لجمعه وتدوينه.

وقد أصبح منطق أرسطو مورداً للاعتراض والانتقاد الشديدين من قبل العلماء الأوربيين خلال التحولات الحديثة في أوربا، فادعى بعض العلماء مثل ديكارت وهيجل ( Hegel) تأسيس منطق جديد. وقد قصرنا مقالة من هذه المجموعة من المقالات على هذا الموضوع، وبحثنا فيها الأساليب المنطقية الحديثة ولا سيما أسلوب المنطق الديالكتيكي، ونقدناها جميعاً؛ ولهذا فنحن لا نعترض هنا لهذا الموضوع.

3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟

يضع الناس الحقيقة-عادة-في مقابل الخطأ، والصحيح في مقابل الغلط، والصدق في مقابل الكذب، فيقولون إذا كانت فكرة ما صحيحة وصادقة وحقيقية فليس من الممكن إذن أن تكون مخطئة ومغلوطة وكاذبة. والعكس صحيح أيضاً فإذا كانت مخطئة فليس من الممكن أن تكون حقيقية. مثلاً إما أن تكون هذه الفكرة:


"الأرض تدور حول الشمس " صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن يكون هناك احتمال ثالث. وكذلك الحال في كل المواضيع الأخرى سواء أكانت من المسائل المتعلقة بالحياة اليومية كقولنا "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون" أم كانت من القضايا الكلية العلمية الرياضية كقولنا "إن ضرب الرقم خمسة في خمسة يساوي خمسة وعشرين" أم كانت من المسائل الكلية في الطبيعة مثل قولنا "إن الأجسام تتمدد نتيجة للحرارة" أم كانت من الحقائق الفلسفية كقولنا "أن الدور والتسلسل باطلان".

ولكنه شاع أخيراً بين العلماء المحدثين أن الحقائق العلمية في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقة فمن المحتمل أن تكون مخطئة. واستغل هذه الفرصة علماء المادية الديالكتيكية القائلة بوحدة الضدين وإن جميع الأضداد والنقائض قابلة للاجتماع والتصالح فزعموا أن الحقيقة والخطأ أو الصحيح أو الغلط أو الصدق والكذب ليسا مختلفين اختلافاً كبيراً وإنما من المحتمل أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً، صحيحاً وغلطاً، صادقاً وكاذباً في نفس الوقت.

ولكنه من المستحيل أن تكون فكرة ما من حيثية وجهة واحدة حقيقية وصحيحة وفي نفس الوقت تكون أيضاً مخطئة ومغلوطة، وليس هذا خافياً حتى على طفل لم يجتز المرحلة الابتدائية.

وهؤلاء العلماء الماديون أنفسهم أهم مستعدون لقبول أن تكون فلسفتهم وكذلك منطقهم صحيحاً وخطأ في نفس الوقت؟

أهم يقبلون أن نقول أن هذه القاعدة التي ذكرناها عنهم وهي:

"من الممكن أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً في نفس الوقت " حقيقية ومخطئة في نفس الوقت، صادقة وكاذبة معاً؟

وما ادعاه هؤلاء العلماء بالنسبة إلى اجتماع الحقيقة والخطأ يسحبونه إلى النظريات والفرضيات العلمية الكبيرة، ويعنون به في هذا الباب أن النظرية أو الفرضية العلمية تشتمل على عدة مواضيع وتضم كثيراً من الأفكار، ولهذا فمن المحتمل أن يكون أحدها-أو أكثر- مخطئاً وهذا أمر مقبول من قبلنا ولا علاقة له أصلاً بـ"وحدة الضدين".

وسوف نتناول هذا الموضوع بالبحث والتدقيق خلال هذه المقالة ونستعرض فيها نظريات المادية الديالكتيكية ولا سيّما ما يخص "قيمة المعلومات" متبوعة بنقدنا وتقييمنا لها.

4-أتكون الحقيقة دائمة أم مؤقتة؟

هذا الموضوع يستحقّ الدّقة، والدقة فيه تحول دون الوقوع في كثير من الأخطاء.

والمحققون القدماء من المنطقيين والفلاسفة عندما يذكرون خواص المفاهيم والأفكار الحقيقية فإنهم يعدّون من ضمنها صفة الدوام ويقولون إن الحقائق دائمة. وقد أشبعها بحثاً الشيخ الرئيس ابن سينا في منطق الشفاء.

واختلط هذا الموضوع على بعض العلماء المحدثين ولا سيّما الماديين فظنوا كون المقصود منه هو أنّ موضوع الفكر الحقيقي ومطابقته للواقع إنما هو أمر ثابت وخالد، ولهذا هاجموا هذه الفكرة بشدّة مدّعين أن هذه العقيدة قد حصلت للقدماء بسبب عدم التفاتهم إلى أصل التغيير الشامل للطبيعة، وأما من يلتفت إلى أصل التغيير فهو مضطر إلى القول بكون الحقائق مؤقتة وليست دائمة.

ويعدّ الماديون الاعتقاد بكون الحقائق دائمة من نتائج جمود المنطق القديم ومن خواص التفكير الميتافيزيقي.

إذن من الواجب علينا أن نلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع.

وقبل أن نقتحم صميم موضوع كون الحقيقة دائمة أو مؤقتة، ولكي لا يقع الخلط بيم موضوعين وليتمّ الفصل بينهما، لابد أن ننظر إلى الواقع ونفس الأمر الذي تحكيه المفاهيم والأفكار أهو مؤقت أم دائم؟

ليس من شك في أن الواقع ونفس الأمر الذي تحكي عنه القضية الذهنية قد يكون مؤقتاً وقد يتصف بالدوام. فالواقع المادي مثلاً في الخارج موقت لأن المادة والعلاقات التي تربط بين أجزائها في تغيير مستمر، فالشيء الواحد في الطبيعة لا يبقى على حالة واحدة خلال لحظتين، وكل واقع يظهر على الساحة الطبيعية لمدة محدودة ثم يزول. إذن هذا اللون من الواقع موقت وزائل.

ولكن هناك نوعاً من الواقعيات المستمرة والأبدية موجوداً في الطبيعة "(بغض النظر عما وراء الطبيعة) مثل واقع الحركة فإذا قلنا أن المادة متحركة فقد تحدثنا عن أمر مستمر ودائم. وعندما يتحدث المنطق القديم في باب القضايا عن الدوام والضرورة وغيرهما فالمقصود به ذلك النوع من الدوام الذي هو من خواص بعض الواقعيات، وهذا اللون من الدوام لا علاقة له بموضوعنا هذا.

إذن من المحتمل أن تكون الواقعيات الخارجة عن الذهن مؤقتة ومن المحتمل أيضاً أن تكون دائمة.

والآن نتساءل عن الحقائق أهي دائمة أم مؤقتة؟


يعني أتكون مطابقة المفاهيم والمحتويات الذهنية للواقع ونفس الأمر (سواء أكان مؤقتاً أم دائماً) مؤقتة أم دائمة؟

من الواضح أن هذه المطابقة لا يمكن أن تكون مؤقتة، لأنه صحيح أن هذه المفاهيم تبين واقعاً متغيراً وذلك في لحظة خاصة من الزمن، ولكن مطابقة ذلك المفهوم لواقعه أبدي، وهي لا تختص بلحظة معينة من الزمن.

وبعبارة أوضح فإن المفيد والمحدود من الزمن هو الواقع الخارجي وليس مطابقة المفهوم الذهني لذلك الواقع الخارجي. فمثلاً عندما نقول:

"كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد" فقد تحدثنا عن العلاقات المتغيرة لأجزاء الطبيعة لأن دراسة أرسطو عند أفلاطون تتعلق ببرهة زمنية معينة (هي القرن الرابع قبل الميلاد).

ولكن هذه الحقيقة التي اقتحمت أفكارنا صادقة دائماً ومطابقة لواقعها أبداً، أي أن كون أرسطو قد تتلمذ علي يد أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد صادق دائماً في كل الأزمان.

وهذا المثال هو من الحقائق التاريخية المتعلقة بواقع مادي متغير. ويسري هذا الحكم على جميع الحقائق الرياضية والطبيعية والفلسفية سواء أكانت متعلقة بواقع متغير أم دائم.

وعندما يجري الحديث عن الدوام والضرورة في المنطق القديم في باب البرهان فالمقصود منه هذا اللون من الدوام الذي هو من خواص الحقائق ومتعلق بموضوعنا هذا وهذا هو ما يقصده علماؤنا السابقون عندما يقولون أن الحقائق دائمة.


وعلى هذا فأي مفهوم ذهني إما أن يكون من أساسه كاذباً ومخطئاً وغير حقيقي، وإما أن يكون حقيقياً ويحكي الواقع ونفس الأمر وعندئذ لابد أن يكون مطابقاً لواقعه دائماً.
8O 8O 8O
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••
صورة العضو الرمزية
بشرى سارة
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 795
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

مشاركة بواسطة بشرى سارة »

وانا وجدت من خلال قراءتى لموضوعك ان الحقيقة المؤكدة والدائمة هى انك مبدع ومتألق ومتميز لابعد الحدود
:oops: :oops: :oops: لتنوعك فى المواضيع وفى كل المجالات
بارك الله فيك واسعدك ونصرك
فى انتظار المزيد من مواضيعك الشيقة
دعواتى لك بالنجاح والتوفيق فى كل حياتك


صورة
أضف رد جديد

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“